ممسكةٌ بقفة تحتوي على كميّة من حبوب الزِوان وأعواد العنبر وبعض أوراق الصحف القديمة، تجلس رفيقة الجويني التي تجاوزت العقد الثالث من عمرها أمام مقبرة الدندان (إحدى المدن الشعبية في العاصمة التونسية)، لبيع ما تسنّى لها من مستلزمات زيارة قبور الموتى من أجل تأمين لقمة عيشها.
تنحدر الجويني من عائلة متوسّطة الدخل، أُجبرت أسرتها على الرحيل من محافظة سليانة (شمال غرب تونس) للعيش في مدينة الدندان بحثا عن عمل يمكنّها من حياة كريمة، واستقرت هناك.
هي لم تبال بحذائها الذي بلي، ولا بمعطفها الصوفي الذي لا يقيها لسعات برد أيام الشتاء أو أشعة الشمس الحارقة، فهي كما يبدو اعتادت الجلوس أمام المقبرة من أجل الحصول على دنانير لتأمين لقمة عيشها، في تجارتها التي دأبت عليها منذ أكثر من عشر سنوات.
ببسمةٍ لا تفارق وجهها، تؤكّد رفيقة للجزيرة نت وهي تربط قطعة القماش التي تغطّي رأسها الذي يغزوه الشيب، أنها تأكل خبزها اليومي من هذا العمل البسيط، وتضيف وقد أنهك التعب جسمها النحيل، أن "الخبز مرّ، في النهاية سندفن في هذه الحفرة، كنا ملوكا أو فقراء".
وكلّما اقترب زائر للحصول على حبات الزوان، تضعها بإتقانٍ اعتادت عليه يداها الصغيرتان في كيسٍ تصنعه من أوراق الصحف والمجلات القديمة، ثم تعود لتواصل علمها، فهي تفضل بيع الزِوان على أعمال أخرى غير شريفة.
فرص شغل
ترافق رفيقة الجويني أمّها منذ نعومة أظافرها إلى المقبرة لبيع حبات الزوان وبعض علب أعواد العنبر.
لكّنها لم تكن تعلم أنها سترث مهنة أمها التي فارقت الحياة منذ عشر سنوات، فهي على عكس بنات جيلها لم تسمح لها الظروف بإكمال دراستها لتحظى بوظيفة في القطاع الحكومي، أو تخرج في نزهة مع فارس أحلامها، لتصبح كلّ آمالها مدفونةً في نعشٍ خلف المقابر، التي قالت إنها باتت جزءًا من تفاصيل حياتها اليومية.
بألمٍ وحسرة تستجمع الجويني ذكرياتها الحزينة، بعدما فارق أبواها الحياة، فكل أصدقائها الذين تعرفهم هم زوار المقابر، وما تبقى من عائلتها شقيقان، وهي تروي للجزيرة نت معانتها في البحث عن لقمة العيش، بعدما فقدت الأمل في الحصول على عمل في المصانع المجاورة، قبل أن تقرّر الخروج للعمل في المقبرة، رغم النظرة الدونّية التي يغمرها بها المارة.
تعود رفيقة الجويني أدراجها ممسكة بقفّتها وهي تدرك أن بعض الدنانير، التي جمعتها في بيع حبّات الزوان حيث يبلغ ثمن كأس الزوان 100 مليم (يعادل 0.18 دولار)، لا يكفي حاجتها لتسديد تكاليف الغاز أو الكهرباء وتوفير خبزها اليومي.
الأحياء الأموات
لا يختلف حال الجويني عن حالات عشرات الأشخاص الذين أجرت معهم الجزيرة نت لقاءات، أهمها قصة الشاب مسعود الجندوبي، الذي تجاوز العقد الثالث، كان يفترش قطعةً من الورق المقوى وهو ينتظر حتى يسدل اللّيل ستاره ليتسلّل إلى المقبرة، لينال قسطا من النوم.
همس الجندوبي بصوت خافت، يضمر كثيرا من الخوف، لدى حديثه للجزيرة نت "حارس المقبرة، الذي يرتدي لباسًا أزرق، منعني من النوم في الأيام الفائتة، إنّه يخشى الوشاية التي تفقده وظيفته، لكن ذلك لا يمنعني من أن أكرر المحاولة"، ويتابع ساخرا في النهاية حتى لو تفطّن لوجودي واكتشف أمري أظنّ أنّه سيكون رحيماً معي كعادته.
يمسك مسعود بعود يخطّ به الأرض ويردف أنهم يلاحقوننا حتى في المقابر، التي نبحث فيها عن قليلٍ من السكينة والدفء، "أهذه مقابر أم فنادق، توا هذ ه عيشة؟ (أي هل هذه حياة؟)".
يحدثّنا الجندوبي عن قصة فقدانه عائلته، ويداه المرتعشتان تمسكان بسجارة، يقول إنّه ظل وحيداً، ولم يبق له أحدٌ من شجرة عائلته بعدما فارق والداه الحياة، وإنّ كل ما يعلمه اليوم أنه أصبح بلا مأوى.
ثم يجلس القرفصاء وهو يراقب خطوات المارة في صمت، هو وحده يعلم أن حجم مواجعه وعزلته تتسع بحجم تلك الأحياء الشعبية، فوحدها أحضان المقابر يمكن أن تخفف جراحه وتنهي رحلته اليومية الشاقة بين حضائر البناء قصد الحصول على شغل.
ويردّد الجندوبي "كلّ ما أملكه هو حقيبتي التي أحملها، وهذا القميص الممزق على ظهري"، ثم ينصرف مسرعاً "لقد حان موعد التسلل إلى المقبرة".
صدامات نفسية
ويحذّر الباحث في علم الاجتماع عز الدين ممدوح من أن عدم اتخاذ إجراءات لتحسين مثل هذه الوضعيات الاجتماعية المهمشة في تونس سيولّد "انفجارًا اجتماعيا".
ويضيف للجزيرة نت أنّه لا بد من وضع إجراءات تحمي الطبقات الوسطى التي تآكلت بسبب الأداءات والضرائب التي فرضتها الحكومة على المواطنين، الأمر الذي ساهم في زيادة الفقر، لافتاً إلى أن تونس التي فجرت ثورة يناير/كانون الثاني 2011، طالبت بتوفير حماية اجتماعية لهذه الطبقات المهمّشة.
ويعتبر ممدوح أن محاولة البحث عن مورد رزقٍ بخلق نشاطات أمام المقابر في تونس ظاهرة مرتبطة تاريخيا بنزوح سكان الرّيف نحو المدن من أجل إيجاد فرص عمل أفضل، مشيراً إلى أن هذه الظاهرة ليست موجودة في تونس فحسب، بل في عدة بلدان عربّية ومنها مصر.
من جهته، يقول الأخصائي في علم النفس والأمراض العصبية عماد عشاش للجزيرة نت إنّ الصدامات النفسيّة التي يتعرض لها من يسكنون في المقابر هي نتيجة وجودهم الدائم في تلك الأماكن، مما قد يؤدي إلى وصولهم إلى مرحلة نفسيّة سيئة، لذا فهم أقرب الأشخاص للتعرّض إلى الهلع والصرع.
ويتابع أنّ المقابر التي يعيشون فيها هي أماكن غير مؤهلة آدميا للعيش، وأنها قد تحوّل أغلبهم إلى أشخاصٍ مضطربين نفسيا نتيجة تعرضهم للكثير من الجرائم، من بينها السرقة والاعتداء، بالإضافة إلى شعورهم الدائم بعدم الارتياح والأمان.
لم تنم رفيقة الجويني في انتظار بزوغ فجر يوم جديد يمكن أن يعيد إليها بسمة الحياة التي دفنتها في تلك المقابر، لا سيما في ظل الأزمة الاقتصادية والسياسية التي تعيشها تونس.
المصدر : الجزيرة