لكأننا ننتقل بين عبودية وأخرى يختلف الظاهر لا شيء سواه، الجوهر العميق هو ذاته، وإن لم نلحظ الأمر، فحبكة الأحداث متقنة بحيث تفرز من جعبة الواقع أسماءاً وألقاباً براقة، لن أدَّعي بأنها مزيفة لكنها تتزين بما يريح نفوسنا فنعيش بفوضى وهجها اللاذع، ونخطئ حين تمتلكنا فوضانا ولا نملك حق القبض على ضياعنا في شِركها. صحيح أن العمل واجب إنساني، نتكئ عليه ليسندنا على أعمدة الحياة الهشة، لكنه أضحى معركةً للوجود، وغايةً أكثر من كونه وسيلة.
قديماً في زمن الرق كانت الحروب تسعى لإنهائه لامتلاك الحرية كحق إنساني أوليّ، حينها كان امتلاك الإنسان لإنسان آخر وتسخيره للعمل ظاهرة استحقت أرواحاً وحروباً لتتلاشي، لكنّا ما لبثنا أن سلَّمنا أنفسنا عن طيب خاطر لظواهر أخرى لا حرب يمكنها ازاحتها لأننا مفتونون بها، وأضحينا ثوّاراً ضد أنفسنا لا من أجلها، وانصهرنا في نسيجٍ ماديٍ خانق، ومملوكين بإرادتنا الكاملة لمفردات مختلفة، العمل، الثروة، المال، المناصب، وجميعها ليست إلا رق محدَّث، عُدِّل ليصبح صالحاً لزماننا.
نخطئ إذ نظن أن العمل وما يلحقه من مال وحده يصنع لنا عالمنا الخاص أو يخلق لنا حياة نملكها منذ التقطنا أنفاسنا الأولى، ووَهْمٌ كبير نعيشه في فقاعة غليظة، فالعمل يصلح لأن يكون نتيجة حتمية نتمكن من الحصول عليها بعد سنوات علم طويلة، نوثِّق خلاله ما نما وتخمر من أفكار وخيال في عقولنا ليصبح حقيقة، وبه نتمرس صناعة الحياة، ويفتح لنا جبهات تواصل على عوالم وظروف أخرى، لم نكن على دراية بها من قبل، وهو جسر عبور لثقافاتٍ ولغاتٍ وخبراتٍ، وسَفر روحي عميق المطاف، ولو لم يكن الأمر كذلك لبقينا في رقعة بالية لا تطأها الحداثة. لكن، هناك من يتناسى كون العمل جزءاً من حياته، يحتاج إليه ليمهِّد جوانب أخرى من الحياة، وكأنه تحوَّل إلى كائن بلا خيار، أو لعلّه كائن رافض لأن يختار، حاصره طموحه بأفق لا محدود، فغاب في زحام الأرقام وسراب الألقاب، وراح يكافح بتوكيد كينونته في الغياب أكثر من الوجود.
لا أميل إلى تكرار مفهوم العمل المأجور ورأس المال، فقد تركت الأمر لماركس الذي ألّف ما يكفي من الكتب وألقى ما يفوقها عدداً من المحاضرات، وللثورات العمالية وللصراع بين الرأسماليين والشيوعيين وما نتج عنه من مناظرات ما زالت شعلتها ملتهبة إلى هذا اليوم، بل أميل إلى تأمل أولئك الذين يستعبدهم العمل والمال بحيث لا يعرفون من الحياة شيئاً آخر سواه، أيكونوا فقدوا شغفهم نحو الحياة، أم فهموا أنه هو الحياة بذاتها؟ عالم الأعمال يشوبه ما يشبه الإدمان، كثيرون من أصحابه يهجرون الحياة طمعاً بمؤشر الأرقام الذي يتصاعد في حساباتهم، متصوفون في دنيا المال، وكلما حققوا رقماً جديداً بدأوا بانتظار ما يزيد أرصدتهم، حتى أنهم يرون الأشياء بأرقامها لا بمعانيها وآثارها، كيف ينجوا هؤلاء من حمَّى الأرقام؟
بيل غيتس صاحب اللقب الأكثر بريقاً، كونه "الرجل الأغنى في العالم" وإن كان قد أمضى حياته بين أضخم الأرقام وأعلاها قرر أن يهب لأولاده حياة من بعده بعيدة عن ملياراته بحيث لا يورثهم ثروته ليتسنى لهم اكتشاف الحياة دون غطاء ملياراته السحري، وهو النهج الذي اقتدى به جاك ما فقرر أن يترك اللعب بملياراته الأربعين، حتى يتفرغ لما يشغل به شغفه وهو العمل الخيري في مجال التعليم. أحد أغنياء النرويج تبرع بثروته، لتمويل سفينة أبحاث علمية من شأنها التوصل إلى حل لتنظيف المحيطات من البلاستيك، وهو الذي بدأ حياته كصائد أسماك. أهو شيء من اليقظة ألهمهم أخيراً ليكون لهم وجود آخر أرقّ من جولات الأرقام. البعض بحاجة لكاشف حياة، حتى لا يكون المال أو مرادفاته المادية الفارق الوحيد بين عبوديتنا القديمة وما طرأ عليها من تحديث، فنحن نرتقي بأنفسنا حين نهذب خطوات الزمن وهي تجري على حافة أعمارنا.
كاتبة