إنها قصة عجيبةٌ تلك التي تجمع بين الكاتب وكتاباته، قصة وإن حُدّدت شخصياتها إلا أن مضمونها لا يبرح ينمّ عن غموض صاحبها، فهل تعكس كتابات الكاتب شخصه الحقيقي؟ وهل هي جزءٌ من تركيبته النفسية والذهنية؟ وهل يطمح الكاتب بكلماته رسم عالم وردي يتمنى أن يراه في الواقع وينعم فيه؟ أم يهربُ من سلبياته فيحاول وصف علاجٍ فعالٍ لها في غيره؟ أم هو يعرض إيجابياته محاولاً تكريسَها في المتلقي؟ أم هي عواطف ومتمنيات تصدر من أعماق نفسه المتألّمة ليَحصد بها الشفقة والحنوّ، أم هو صراع الخير الذي يحاول به كبح جماح شرارة الشر المتجذرة فيه، أم أن الكاتب لا يعدو أن يكون ذاك الخيال المحلّق الذي تارةً يبدو نبيّاً ممجّداً وتارة متمرداً على كل القيم والأعراف.
يحدث أن تُقبل على كتابات أحدهم بنهمٍ كبير، فتصل الليل بالنهار تلتهم الصفحة تلو الأخرى حتى تتورّم عينيك، تشدك أفكاره النيّرة السابحة في بحرٍ من المبادئ والأخلاق والمُثل، ويسحبُك تعبيره المتناسق الغارق في معاني الفضيلة والسموّ، ويحدث أن تُصادف في نفس الفترة نفس الكاتب على فضائية من الفضائيات لكنّك لا تعثر فيه لا على مُثلٍ ولا على قيمٍ ولا على مبادئ، وإنما جثّة منبطحة على أريكة فخمة ترى نفسها الوحيدة من بين كل الخلائق الأخرى من أُوتيت منذ صباها فطنةً حادة، وذكاءً متوقداً، وعلماً منقطع النظير، وكانت تقرأ باستمرار أمهات الكتب والمراجع منذ أوّل عهد لها بالقراءة، وانكبّت على الدراسة والتعلم الذاتي في شتى العلوم والمدارك، وكانت الأولى على دُفعتها وتفوّقت على أقرانها تفوقاً شاسعاً، فجُعلتْ هذه الجثة المتكلمة على رأس الخلائق كلها، وجُعلت الخلائق من أسفلها.
يحدث أن تصادفَ ذلك، لكن المؤسف أن صورة هذا الكاتب تضمحلّ أمامك كما يضمحلّ زبد البحر بعد ارتطامه بالصخر، فتحسُّ بشساعة الهوّة بين ما تخطهُ يداه في الأوراق وبين ما تنثرهُ نفسه المريضة إلى الخارج، وكأن أغشية معتمة كانت تحجبُ الرؤية عنك فتبدأ في الانكشاف مثلما ينكشف الصباح من ظلمة الليل، حتى تُقسِم أنك لن تعود إلى حرفٍ واحدٍ مما يَكتُب، ويحدث أن تسمع الكثير من اللغو والكلام القبيح في شخصِ كاتب، حتى تتشكّل في ذهنك صورة قاتمة عنه أشدّ من سواد الليل الحالك، وتُشوَّه ملامحُه تشويهاً إلى أن يصير شبحاً تهرب منه أنّى سمعتَ سيرتَه، ويُكفَّر حتى يُخيَّلُ إليك أن ما من كافرٍ غيرهُ فوق الأرض، ويحدث أن تُصادف في قناة من القنوات حواراً معه، فتتراجعُ وتنفرُ منه، إلا أن شغفكَ يجذبكَ ليقهر الخوف في داخلك.
ثم لا تلبث أن تجلسَ لتسمعَ له وتتأكدَ بنفسكَ من كل ما قيلَ لك عنهُ ونَقلته أنتَ للناس، فإذا بصاحبنا رجلا حقيقياً أصيل المعدن، ليس لأنّه كاتب، ولكن لأن تواضعه ونقاوة قلبه صنعت منه كاتباً فذّاً مستحَقَّ اللقب، فيُسألُ ويُجيب، وكأن كلماته تخرج كالأصداف اللامعة ليُحدث انسيابُها موسيقى عذبة تطمئن نفسُكَ لها، وتقرأ في نبراتها آياتِ الصدق الدفين، كيف كنتُ غافلاً حينما آمنتُ بما آمنَ به الآخرون بحكمهم المجحف على كاتبٍ كهذا؟
إنه صادق فيما يقول وباطلٌ ما يقولون، إن كتاباته تعكس شخصيته حرفاً بحرف وكلمة بكلمة، وإن إنسانيته تتدلّى الآن أمامي كما يتدلى عنقود العنب الممتلئ من غصن الكرمة، وهي كذلك كما كان يرسمُها بطرف قلمه، لا تزيد ولا تنقص، غير مزينة بأكاليل زهور الأقحوان والبنفسج، إن العوالم التي تحدّثَ عنها في قصصه ورواياته هي نفسها التي ينعكس صداها الآن في مُقتلَه، وإن الرحمة التي طالما خطتها أنامله في أحداث ومواقف هي نفسها ما تُعبّر عنه قسماتُ وجهه وتعبيراته، وإن الحب الذي طالما تغنّى به بين الحبيب ومحبوبته والأم ووليدها هو نفسه الحب الذي يتساقط كالشهد من شفتيه المتشقّقتين، وإن الألم الذي فاض من قلبه على ضفة الإنسان هو نفسه الهمّ الذي يفصل بين كل كلمةٍ وأخرى مما يلفظُ لسانُه، لم يكن أبداً ذاك الشخص الذي تحدثوا عنه بغلٍّ ووصفوه بحقد، ولعلّ الغلّ هو من كان سبباً في هذا السور العظيم بيني وبينه، وبيني وبين كثيرين مِثله.
إن الكاتب الحقيقي لا يتخذ الكتابة عرشاً عاجياً يرى منه نفسه فوق كل الخلائق، فيصيبُه مرضُ التكبّر ويستهويه اللّقب، فإن كَتبَ خيراً فالأَوْلى أن يكون من أهله، وإن دعا لنصحٍ فالأجدر أن يتّبع أثَره، وإن وصف شرّاً أو طبعاً منفّراً فالأفضل ألا يكون من أتباعه، فهو في هذا المقام مصدر الثقة ومنبع الفضيلة. والكاتب المزيّف هو من تتحطّم كل اللوحات الفنية التي رُسمت له بمجرّد أن يتفوّه بجملةٍ واحدة، فالأفضل لك ألاّ تعرفه وألا تعرف سيرته، وألاّ تثق به أو تُجلّه، بل قدّر فقط قيمة القلم في يده واحترم مداده الذي طالما قدّسه الناس وعبدوه، والأفضل لك أن تغوص في عوالمه الجميلة المشيّدة خلف واقعٍ آخرٍ من العجرفة والتصنّع، ولا تهجر كتاباته فقد تكون عصارةً معقدة لحياةٍ حُبلى بالصدمات ونكران الجميل، جعلتْ منه مريضاً مكرهاً ذَا شخصيتين يجد أحلاهما فيما يكتبُ لا فيما تتجلّى للناس، فتكون بذلك أنتَ الإنسان الحقيقي وهو بقايا إنسانٍ تُحاول التشكّل!
فقد لاقت كتاباتُ نجيب محفوظ على سبيل المثال انتقاداً واسعاً ممّن يفهمون صنعة الأدب وممّن يجهلونها على حدٍّ سواء، فقذفوه بالكفر، واتّهموه بتدمير الأجيال الصاعدة وحثّها على الرذيلة والانحراف، لكنك إن استمعتَ لمجالسه وحواراته ورأيتَ تقرّبه وتذلّله للناس، لوجدتَه من أطيب خلقِ الله، ولن تتخيّل سعادته بمقابلة مُحبيه وطريقة تحدثه مع وسائل الإعلام بعيداً عن الأنة والتكبّر وهو صاحب جائزة نوبل للآداب أعظم جائزة أدبيةٍ على الإطلاق، في حين تجد غيره ممّن تقمّصوا دور الكاتب لا يتعاملون بلطفٍ مع العامّة، ولا يُعيرون اهتماماً للإعلام الهادفِ ناهيك عن مَشيهم مشيةَ الطاووس ورفعِهم للصوت كزئير ملِك الغاب، رغم أن إنتاجاتهم الأدبية الرديئة قد لا تتعدّى مقدمةً كتَبها نجيب محفوظ أو غيره ممن يُشبهونه، أو قصيدة واحدة لنِزار قبّاني خطها في مقتبل شبابه.
قد تجد كاتباً متخصصاً في قصص الرعب يخاف من خَياله، وقد تجد في قصصِ كاتبٍ اشتُهر بشجاعته ومواقفه الكثير من بالجُبن والخذلان، وهذا لا يُفسد عمله بقدر ما يفسدُه كذبُه إن هو كتب صدقاً ووفاء، وتلوّنه إن هو كتب ثباتاً وصبرا، ووقوفه مع الظلم إن هو أظهر الحق ودعا إليه، فكل هذا لا يستقيم ولقبُ الكاتب قد حُمّل على عاتقه، فيموتُ قبل أن تموت كتاباته، أما الكاتب الذي يعرف قيمته ومكانته وإن مات في شخصه، إلا أن كتاباته تشهد له بالحياة!
مدون مغربي