لأكثر من ساعة تجولت خديجة بنت أعلي في سوق السمك بنواكشوط ومرت على أكثر من بائع لكنها لم تعد لأطفالها بغير القهر وقلة الحيلة، فغلاء الأسعار منعها من شراء كمية السمك التي جاءت لأجلها.
"بنت أعلي" التي ترتاد السوق أيام الجمع والعطل عادة، قالت "أسعار السمك لم تعد في متناول متوسطي الدخل والفقراء وسكان أحياء الصفيح".
لكن ما يغيظ خديجة وغيرها من المواطنين الموريتانيين، يتمثل في أن بلدهم يمتلك ثروة سمكية هائلة ويحتل المرتبة الأولى عربياً من حيث تصدير السمك إلى العالم، في حين لا يجدونه حيث أصبح تناول السمك حلماً بعيد المنال لكثير من المنتمين للطبقة الوسطى، مما يكشف حجم التناقضات بين الواقع والإمكانات.
الواقع يبدو مرّاً في نظر الكثير من مواطني موريتانيا، لعلمهم أن شواطئ بلادهم تبلغ مساحتها 780 كيلومتراً، وأن الأسماك تمثل حوالي 60 % من صادراتها إلى العالم وتساهم في ميزانية الدولة بنسبة 27% فيما تشكل نسبة 10% من الناتج المحلي، إلا أن الأمر لم ينعكس عليهم أو يسهم بتقليل أسعارها ويعطهم فرصة لتناولها.
الغلاء غير المبرر جعل معدّل الاستهلاك الفردي للسمك في موريتانيا 9 كيلوغرامات للفرد سنوياً في المناطق الواقعة على الضفة والمحيط، أما سكان المناطق الشرقية، فالكثير منهم لم يتناول السمك في حياته إطلاقاً.
ولا تتوفر الأسماك في معظم ولايات موريتانيا خصوصاً البعيدة عن العاصمة، إلا في أيام العطل حيث تجلبها سيارات مثلجة لكن غلاءها يمنع معظم الناس من استهلاكها.
في سوق السمك بالعاصمة نواكشوط - الواقع على شاطئ المحيط الأطلسي- يتوافد المواطنون في المساء لانتقاء السمك الطازج حيث يشترون من الصيادين مباشرة وقت مجيء قواربهم من البحر، لكن الأسعار هناك وإن كانت هي الأرخص تظل غير مناسبة لبلد تعيش نسبة كبيرة من سكانه تحت خط الفقر.
فاطمة بنت سيدي ربة منزل جاءت كعادتها مساءً لتأخذ حاجاتها من السمك، قالت لـ"العربي الجديد" إن "غلاء الأسعار أصبح يؤرقني، فمتوسط سعر نوع السمك المعروف محليا بـ"سق" أصبح يصل إلى 2300 أوقية للكيلو" أي ما يعادل حوالي 8 دولارات.
بنت سيدي وقفت في السوق ورائحة السمك تحيط بها في كل مكان، تتلفّت يميناً ويساراً لعلها تجد بائعاً تناسب أسعار أسماكه مدخولها، ثم تابعت حديثها لـ"العربي الجديد" متنهدة بحسرة "تزيد أسعار السمك باستمرار ولم يعد بالإمكان شراؤه حتى أنه انضم إلى قائمة المحظورات على كثير من الاسر الموريتانية".
مشكلة فاطمة بنت سيدي يشاركها فيها عدد كبير من المواطنين غير القادرين على تحمل أسعار السمك المبالغ بها في بلد يسيطر على 18%، من إنتاج الأسماك العربية.
حرمان المواطنين الموريتانيين تناول السمك على الرغم من وفرته فى بلادهم، ليس المفارقة الوحيدة، فالثروة الهائلة التي تتمتع بها السواحل الموريتانية لا تكاد تترك أثراً في الواقع المعيشي للسكان بسبب ما يسميه الاقتصاديون "الفوضوية في التسيير والاتفاقيات المجحفة في حق المواطنين".
موريتانيا تعدّ شريكاً للاتحاد الأوروبي في مجال الصيد، فيما يأتي من بعدها اليابان وروسيا في قائمة الشركاء الاستراتيجيين حيث أبرمت الحكومات المتعاقبة الكثير من الاتفاقيات مع شركائها الأوروبيين واليابانيين والصينيين والروسيين كلها فى مجال الصيد.
آخر الاتفاقيات تم توقيعها بتاريخ 26 يونيو/حزيران 2012 فيما تعتبر تجديداً للاتفاقية الموقعة قبلها سنة 2008 مع الاتحاد الأوروبي التي ترى الحكومة أنها إنجاز غير مسبوق.
وبموجب الاتفاقية أصبح الاتحاد الأوروبي يدفع لموريتانيا سنوياً 113 مليون يورو بدلاً من 83 يورو، لكن اللافت هو زيادة الكمية المسموح باصطيادها حيث أصبح الاتحاد الاوروبي يصطاد ما مجموعه 10 آلاف و400 طن بدلاً من 8 آلاف طن سنوياً.
الدكتور سيدي محمد ولد الخال أستاذ الاقتصاد الموريتاني بجامعة نواكشوط أكد لـ"العربي الجديد" أن "موريتانيا عاجزة عن إدارة ثروتها السمكية" بحكم ما سماه "الفساد الإداري".
وأضاف أن الأوروبيين رموا بثقلهم في السواحل الموريتانية لاستنزافها حيث يوجد ما يزيد عن 200 سفينة عملاقة تصطاد في شواطئ البلاد بدون رقابة دقيقة، بما يعرّض الأسماك الرخوية والأخطبوط لحملات الصيد الجائر.
وعلى حد قوله فإن "إدارة الرقابة والتفتيش البحري بوزارة الصيد لا تملك الوسائل الضرورية للقيام بمهامها، بما يمكّن من تواطؤ المسؤولين مع الجهات الأجنبية، الامر الذي أدّى إلى حرمان شبكات الفساد المواطنين الموريتانيين من أسماكهم وإهداء خيرهم لغيرهم".
خلال العام الماضي تحدث برلمانيون عما سموها أكبر فضيحة في تاريخ الصيد الموريتاني والتي استدعت جلسات خاصة للبرلمان، حيث تعلق الامر باتفاقية أبرمت في ظروف غامضة مع الشركة الصينية "بولي هونك دونك"، يسمح بموجبها للشركة بالصيد العميق لمدة ربع قرن على أن توفر 2500 فرصة عمل، وهو ما لم يحصل بالفعل حيث لم توفّر سوى 300 وظيفة، حيث كادت الاتفاقية أن تعصف بالكثير من المسؤولين، وهو ما جعل الحكومة تتدخل لإلغائها.
وبينما يتمتع الأجانب بالثروة السمكية الموريتانية فإن الصيد التقليدي لا يزال بدائياً إلى أبعد الحدود، فلا توجد سفن موريتانية حديثة بإمكانها الابحار في عمق المياه، وفي داخل ميناء الصيد التقليدي لا ترى عيناك سوى السفن الخشبية المتهالكة والتي تودي بحياة البحارة من حين لآخر.
الصياد آدما حسن قال إن نظراءه من البسطاء التهمهم جشع المسؤولين، وإن قواهم خارت من اجل قطاع يتقاسم عائداته المتنفذون مع الشركات الأوروبية.
ولفت إلى شكاوى الصيادين من تدنّي أسعار المنتوج وارتفاع كلفة التجهيز وغياب الدعم من قبل الحكومة، واختفاء الشركة الموريتانية لتسويق المنتجات البحرية وضعف أدائها المتمثل في السياسة التسويقية، وهو ما جعل الاستثمار في المجال من أشكال اليانصيب.
ويُجمع الاقتصاديون الموريتانيون على أن الثروة السمكية الهائلة لم تنعكس على الواقع المزري للبلد الذي يعاني من غياب البنى التحتية ، ولم تساعد في امتصاص البطالة المنتشرة في صفوف الشباب، ولم تشكل مصدر رزق رغد للسكان الذين يعيشون على ضفاف بحور وأنهار وسواحل تختزن الكثيرمن الخيرات.
اللافت للنظر أن غلاء سعر الأسماك ساهم بتدعيم وجهة نظر الموريتانيين في نمطهم الغذائي الذي يركز أساساً على اللحوم الحمراء التي تباع بحوالي خمسة دولارات للكيلو في معظم ولايات البلاد - بحسب المواطن الموريتاني السيد الداه - الذي لم يجد بديلا عن السمك غير اللحوم الحمراء والبيضاء حتى انه بات على قناعة بأن السمك ليس من طعام الفقراء، ولا ينبغي لهم التطلع إلى تناوله لأن ما يُصطاد من سواحل بلاده ... فقط وحصرياً، يوضع على موائد الأثرياء.
العربي الجديد