ها هي مدينة روي عنها الكثير من الحكايات والقصص حتى أصبحت في ذهن الناس مجموعة أساطير تتحرك مثل رمال الصحراء التي تحدها. يوما ما كانت هذه المدينة امبراطورية عظمى وملكها يعد أغنى رجل في تاريخ البشرية، لكنها تتعرض للظلم والحرمان والعالم يتفرج غير مكترث بها وبإرث قارة تعاني من الحروب والنزاعات. انها مدينة تُمْبُكْتُو أو تينبكتو التي تقع على مسافة 900 كيلومتر شمال شرقي باماكو عاصمة مالي. هذه المدينة التي تعتبر من أهم العواصم الإسلامية في غرب أفريقيا كانت يوما ما مصدر سعادة أهلها وجيرانها تهددها الجماعات المتشددة وتتضافر ضدها عوامل النسيان وظروف الطبيعة القاسية.
الوصول إلى تُمْبُكْتُو لم يعد متاحا بيسر كما كان الوضع في الماضي، فالطرق لم تعد تؤدي إلى البوابة بين شمال أفريقيا وغربها، ولم تعد ملتقى للقوافل البرية القادمة من النيجر وليبيا، ولم يعد تجار الملح القادمون من تودني يعبرونها أو يتركون فيها أغراضهم كأمانات فدروبها محفوفة بالمخاطر.
حين زرت المدينة، قادما إليها من منطقة كيدال برا عند حدود الجزائر وموريتانيا قبل فترة ليست بعيدة، كانت تعيش لحظة صراع بلغ ذروته بين سكانها الطوارق أو الرجال الزرق وأبناء عمومتهم البرابيش الذين يتنازعون مع الحكومة المركزية زعامة المنطقة.
تُمْبُكْتُو تعاقب عليها الغزاة منذ الأزل، وآخرهم المستعمر الفرنسي لكن قبائلها بقيادة محمد علي الانصاري قاومت، بأسلحة خفيفة، الرجال المستعبِدين، غير انهم سرعان ما عادوا بطائرات مقاتلة من بوابة محاربة الجماعات الإسلامية المسلحة التي سيطرت على نصف البلاد. كانت فرق الموت، كما يسميها معارضوها في تقدم مستمر وهي تحرق معها كل الموروث القديم والحضاري للمنطقة ولرصيدها الغني بالتعايش الذي ميز حاضرتها منذ القدم. تُمْبُكْتُو، التي باتت منطقة محظورة على الوافدين منذ ان غزتها قوافل الجماعات المسلحة في أوائل نيسان/أبريل 2012، تنتهك حرمات أضرحتها التي تهدم وتدنس بصمت بعيدا عن الأعين في سعي لتقويض تلك المعالم بدعوى البدعة. لقد أتت جماعة انصار الدين السلفية على 7 مزارات من أصل 16من العتبات الدينية، التي أدرجتها منظمة اليونيسكو على لائحة التراث العالمي عام 1988.
خطر النمل الأبيض
تُمْبُكْتُو النائمة على كتف الدلتا الداخلية لنهر النيجر والصحراء ترتجف منذ فترة وتهتزّ تحت وطأة ضربات المعاول والفؤوس، وتحت الغضب الهادر المدمر للجماعات التي حاولت القضاء على إرث ضارب في عمق ذاكرة السكان. ففي غضون بضعة أشهر فقط قام رجال تناسلوا من كل مكان بنسف كنوز عجزت عنها عوامل الطبيعة مجتمعة. وعلى قدر ارتجاف أباطرة الصحراء من ضياع مدينتهم تزداد مخاوف المهتمين بالتاريخ والمولعين بالكتب التي ينبعث من صفحاتها أريج الماضي. إنهم يتحسرون على تهاونهم في استعادة مقتنيات نفيسة لا تقدر بثمن. فثمة حوالي مليون مخطوط نادر في مختلف العلوم ومناهجها وأبوابها وفصولها حاول المتشددون حرقها، في حين ان أغلب المخطوطات التي يتم إنقاذها في أكبر عملية يشهدها التاريخ هي في وضع مزر وتتهددها العواصف الرملية والنمل الأبيض، وحتى من سوء تقدير البعض لقيمتها التاريخية ودفنهم لها في صناديق حديدية تحت الرمال بسبب الجهل والتخلف الذي آل إليه حال إحدى منارات العلم.
عبد القادر حَيْدرة، صاحب مكتبة عائلية عريقة ومعروفة في المنطقة، يقوم حاليا بمساعدة من منظمات وجامعات دولية، بالإشراف على عملية إنقاذ المخطوطات القديمة التي يتم نقلها بحرص إلى العاصمة باماكو. تُصور حاليا كل صفحة على حدة من هذه المراجع، وتفحص لتخزن في (كتالوغ) خاص في الأرشيف المركزي المالي. وفي ألمانيا وضعت مؤخرا استراتيجية دولية أشرفت عليها لجنة موسعة لحفظ مكتبات تُمْبُكْتُو من خلال مشروع عملاق للحماية الدائمة لمخطوطات صنفتها منظمة اليونيسكو ضمن الإرث الحضاري للإنسانية واعتبرتها ذات أهمية بالغة لمالي وهويتها ولتاريخ أفريقيا. تلك المؤلفات دلّلت على الازدهار العلمي والثقافي وأثبتت ان ريادة القارة السمراء آنذاك حاصلة في ثقافة التدوين وليس ثقافة المشافهة وحدها.
لا يخلو أي بيت في هذه المدينة التي تصفر فيها الرياح من كل الاتجاهات بسبب فرار أهلها، من مكتبة عامرة بالمخطوطات والمراجع النفيسة. هي إرث يتم توارثه أبا عن جد، وهناك عائلات لديها مكتبات ضخمة تضم آلاف الكتب والمراجع النادرة وهي موزعة في أحيائها ومناطقها. التحرك الدولي الحالي لانقاذ مئات الآلاف من المخطوطات يأتي لمسح العار الإنساني في تخاذله منذ سنوات طويلة في صون هذه الذاكرة المشرقة.
زيارة ليون الأفريقي
يعتقد البعض ان إرث هذه المدينة العجيبة ونشاطها العلمي تضاعف كثيرا بعد سقوط آخر معاقل الأندلس وهو مملكة غرناطة، وتم نقل بعض مخزون قصور غناء جنوبا، وكانت تُمْبُكْتُو بثرواتها في ذلك الحين ملاذا لتجار النفائس. أهلها تميزوا بعشقهم للعلم والاستزادة من فنون أثارت فضولهم فتحولت عاصمة للنور، وصار فيها ذلك التزاوج الذي جعلها في مصاف كبريات مدن العصر في ذلك الوقت كالقاهرة، والاستانة، وفاس وغيرها.
حينما قصد حسن الوزان الشهير بـ (ليون الأفريقي) المدينة في بدايات القرن السادس عشر الميلادي كانت تلك ولا شك هي الفترة الذهبية التي جعلت من تُمْبُكْتُو أسطورة الصحراء وجوهرته، حتى أصبحت مضرب الأمثال، ومثار الخيال عند الرحالة الأوروبيين، الذين اقترنت في أدبياتهم بأقصى مكان في الأرض وأبعده.
اليوم لا تكاد تجد أوروبيا واحدا لا يعرف تلك الجوهرة التي تغوص وسط رمال الصحراء الأزوادية شمالي جمهورية مالي، فحسن الوزان نفسه الذي افتتن بتُمْبُكْتُو يقول عنها: «انها المنطقة التي تفجرت فيها صبابته». ويقول أيضا: «ان الوصول إلى تُمْبُكْتُو هو سر أسرارها، فقد كانت ملتقى القوافل، تربط أهل إفريقيا غربا وشرقا، وكان الوصول بحد ذاته يعني نوعا من المغامرة، حيث لا يربطها بأي من عواصم التجارة المشهورة أي محطات لمن يؤمها».
أغنى ملك على مصر العصور
أعيد اكتشاف هذه الحاضرة، الغارقة في رمال الصحراء المتحركة التي قضت على غطائها النباتي الذي زين واحاتها، مرات الواحدة تلو الأخرى بفضل المستكشفين الأوروبيين. وكان البريطاني الميجور غوردون لينغ أحد الذين استماتوا ودفع حياته ثمنا للوصول لمعشوقته تلك. المستكشف الفرنسي رينيه كاييه الذي سكنها حتى توفي فيها يعتبر الجمال كله يتمثل في تلك الكثبان الرائعة التي تحيط بمدينة يشقها النهر. وصفٌ جعلها تبدو مثل وجهة أسطورية، لم يتبق منها سوى القليل الذي كان يحفز رحالة أوروبيين وأمريكيين ليتهافتوا على وضع ختم وصولهم إليها في جوازات سفرهم كدلالة على بلوغهم وجهة عصية إلا على مسافر متمرس في دروب الفيافي وملم بغياهب البيداء.
عند تجولنا برفقة عبد الله أغ واين في المدينة المميزة بطابعها العمراني الفريد الذي تهالك جزء كبير منه لعدم صيانته، والتخلي عنه لعوامل الطبيعة تصنع فيه ما شاءت، تبرز لأي جوال مستكشف عظمة المدينة ويستدل على قصورها التي كانت يوما عامرة. ويتحدث مرافقنا بحسرة ويروي لنا أسطورة «الفاورق» الذي يوجد تمثاله وسط المدينة ويعتقد سكانها انه يحلق كل ليلة فوق منازلهم ليحميها. يضحك متحسرا ومتسائلا ما الذي بقي هنا، في هذه الأطلال، حتى يحميه؟
يقف أي سائح وافد إلى هذه المدينة مذهولا في محاولة تبين الخطوط التي تفصل بين الخيال الذي قرأ أو سمع عنه، وما يشاهده من اندثار وانحسار لكل الإثارة التي صنعت مجد هذه البادية التي كانت عامرة يوما وأصبحت محاصرة بالناس وبالظروف وبالطبيعة. نظرة عزاء على المحيط الممتد في السراب، يرسلها كل من تبقى من سكانها ذوي الوجوه الغائرة المدفونة في الأرض بعد ان كانت تحلق من قبل عاليا في فضاءات المجد. سألت أحد الشيوخ في مكتبة المدينة ما إذا كان يعلم ان الملك «مانسا موسى» المولود عام 1280 والذي حكم مدينتهم قد صنف مؤخرا باعتباره أغنى أغنياء العالم على مر العصور!. كانت ثروته بلغت 400 مليار دولار أمريكي بمقاييس التراكم في عصرنا. ضحك الرجل والتفت إلى خزانته متسائلا : أين تلك الأموال لتنقذ هذه الدرر وتساعدنا في الحفاظ على موروث أجدادنا؟
بين المال والمعرفة
بدأت تُمْبُكْتُو بلفت الأنظار إليها كمركز إشعاع علمي بعد رجوع امبراطور مالي مانسا موسى من رحلة الحج الشهيرة التي قام بها عام 1325 ووزع في طريقه إليها آلافاً مؤلفة من سبائك الذهب خاصة في القاهرة. وتسبب كرم هذا الرجل المبالغ فيه في هبوط أسعار المعدن النفيس. وقد أمر السلطان الشاعر الغرناطي الملقب بالسهيلي بتصميم جامع كبير والإشراف عليه (هو الجامع القائم إلى يومنا هذا) وكانت تلك النواة الأولى لبناء صرح علمي في تُمْبُكْتُو حيث صار مع مرور الأيام مركزا للعلم، حتى ازدهر نور معرفتها مع تقاطر الطلبة من شمال وغرب أفريقيا. ساعد على تحول المدينة إلى منارة مشعة، الانفاق السخي الذي قام به التجار على دور العلم فكان أروع تزاوج بين المال والمعرفة في عروس الصحراء. وصل عدد المدارس في تُمْبُكْتُو في ذلك الوقت 180 مدرسة، تضم أكثر من 25.000 طالب، كما ناهز مستوى الدراسة ذلك الوقت نظيره في قرطبة وتلمسان والقاهرة. ظلت حركة العلم تلك في نمو وازدهار، وكان عمرها واستمرارها مقرون بازدهار التجارة التي تمولها. كانت أكثر البضائع الرائجة في تُمْبُكْتُو ذلك العصر من أفخر مقتنيات الدنيا فكان التجار يقايضون فيها الحرير والتوابل والنحاس الأحمر، ببضائع مملكة مالي الفاخرة التي اشتهر سلاطينها بملوك الذهب، حيث كانت تُمْبُكْتُو من أكثر مدن أفريقيا التي تصدر الألماس والذهب والعاج وريش النعام، إضافة إلى ملح صحراء «أزواد» الذي اشتهرت به قوافله حتى عصرنا هذا.
بعد مئة عام من العزلة تحاول هذه المدينة جاهدة ان تنفض عن جسدها غبار الماضي لتعلن عن عودتها، ولتواصل عطاءها الحضاري الذي بدأته قبل ألف سنة. العودة المزمعة للحاضر بدأت بالآمال التي عاشتها المدينة منذ اندثرت معالمها وطوتها صفحة النسيان بالسعي لدحر المتشددين من أسوارها التي هدمتها الجيوش الغازية وعرتها الرياح القوية في مواسم القحط.
أسرار البيداء لا تزال عصية على الاكتشاف
عبد الله يروي لنا قصة اسم المدينة التي يصر أبناؤها على اعتبار انها «تين بكتو» وليست تُمْبُكْتُو وهو الخطأ الشائع، لكن من الصعب على الجميع ان يزيل من قاموس المؤرخين هذه التسمية التي اقترنت بها. ويقول عبد الله انه في أوائل القرن الخامس الهجري الموافق لسنة 1080 ميلادية، كان الطوارق يعيشون أثناء موسم الأمطار في ربوع صحرائهم ويعودون في فترات الجفاف إلى المناطق الخصبة حول نهر النيجر الشهير، وهو ما دفعهم إلى اختيار الموقع كمكان مناسب لتخزين احتياطي الغذاء. كانت تسكن المكان امرأة عجوز من الطوارق من قبيلة «ايمقّشرن» اسمها بتكو، وعليها سمى المكان بـ»تين» بمعنى (صيغة ملكية يخص كذا).
ظلت تُمْبُكْتُو في البداية عبارة عن مخيم للطوارق، ثم تحولت مع مرور الأيام إلى قرية، وظلت تنمو باضطراد إلى ان تحولت بفضل موقعها من ملتقى للطرق التجارية إلى عاصمة يؤمها آلاف التجار والزوار.
أثناء التجول في المدينة يلاحظ المسافر الأثر المدمر لظاهرة التصحر، حيث أتت الرمال على الغطاء النباتي الذي كان يحيط حدودها، وردم فرع النهر الذي يبلغ طوله حوالي 7 كلم والذي يصلها بالمجرى الرئيسي لنهر النيجر الذي كان يسهل نقل البضائع إلى قلب المدينة بواسطة الملاحة النهرية.
انها حياة جهاد، يقول عبد الله، في مواجهة الجفاف الذي يهدد النهر المحيط بهم فضلا عن تمدد الصحراء التي تغار من أي حاضرة تسلبها هدوءها وتزيل عنها رونقها وتعري صمتها الذي تختزن فيه أسرارها. أسرار البيداء لا تزال عصية على الاكتشاف وربما بعضها موجود في تلك المخطوطات التي ترى سيارات رباعية مهترئة محملة بصناديق حديدية تحاول جاهدة إيصال ما يمكن حمله حيث يتم فحصها هناك. يوما قد تفك كل ألغاز تُمْبُكْتُو التي لا يزال البعض يعتقد انها مدينة خيالية ويروي عنها القصص والأساطير وأصبحت مضرب الأمثال لتحديد البعد الجغرافي لأي مكان.
سليمان حاج إبراهيم : «القدس العربي»