لا يذكر المواطن الموريتاني محمد ولد محمد محمود بداية علاقته بالإبل، وكل ما يتذكره أنه عاش منذ صباه مع أسرته التي تمتهن الرعي على هضاب تكانت وسط موريتانيا، لكنه ضاق ذرعا بتلك الحياة وغادر مسقط رأسه بحثا عن حياة لا نَدْهَ فيها ولا حداء. فطوحت به الدنيا يمينا وشمالا لكنه عاد إلى الحداء متنقلا بين قطعان الإبل، يرعى بأجر لملاك لا تربطه بهم علاقة نسب ولا جوار.
وفي الضاحية الشمالية للعاصمة نواكشوط حيث استقر المقام بمحمد بعد أن دخل عقده السادس، نصب خباءه الذي يأوي إليه كل مساء، يرتشف الشاي بجوار قطيع الإبل، منتظرا زبونا يريد شراء حليبها.
وعلى بعد خطوات من محمد يوجد قطيع آخر يتفقد أحواله عباس، الفتى القادم من أقصى الشرق الموريتاني، الذي لم يعرف سوى مهنة رعي الإبل منذ أيام الطفولة مع الأهل في ربوع الحوض الشرقي، وآخرين من قبائل شتى، تنقل معهم في طول البلاد وعرضها حتى تيرس في أقصى الشمال، وفق ما يقول.
محمد وعباس غريبان ألفت بينهما مهنة رعي الإبل دون سابق معرفة ولا علاقة نسب، شأنهما شأن آلاف الأشخاص المنتمين إلى شريحة "اللحمة" أو "آزناكة" التي مارست هذه المهنة تاريخيا وتميزت بها، فتوارثتها أجيالها، لكن الاثنين يأنفان من الانتساب لهذه الشريحة، رغم التطابق معها في كل التفاصيل، ويؤكدان أن ما يقومان به مجرد عمل لكسب لقمة العيش وليس لأنها مهنة ورثوها من آبائهم.
ويؤكد الرجلان أن شريحة "اللحمة" لم تعد موجودة بالحجم الذي كانت عليه، وما هو موجود اليوم لا يعدو مجموعات قليلة متناثرة في البلاد، أغلبها يملك القطعان التي يرعاها وبعضها الآخر يقوم بالرعي لأشخاص ومجموعات لم تربطه بها علاقات ولاء تاريخية.
ومع أنه لا يوجد ما يميز هذه الفئة عن سكان البلاد من العرب من حيث اللون واللسان والعادات، فإنها عانت عبر تاريخها من النبذ والتهميش الاجتماعي، وعاشت في مستوى متدن وفق التراتبية الاجتماعية التقليدية، واقتصر دورها على الرعي، وكانت تقدم الغرامات للفئات الأخرى (حسان والزوايا) مقابل الحماية الأمنية والروحية.
وبينما يذهب أكثر الباحثين إلى أن أصول هذه الفئة تعود إلى قبائل تنتمي لعنصر واحد، يقول آخرون إن الانتماء إلى فئة "اللحمة" أو "آزناكة" وظيفي.
ويقول الباحث الاجتماعي محمد ولد احميادة إن الهجرات والصراعات التي عرفتها موريتانيا "حددت الخريطة الاجتماعية للبلد. والفئات المتعايشة اليوم على هذه الأرض نتيجة لهذه الصراعات، فالمتغلبون كانوا يسخرون من يتغلبون عليهم للقيام بنوع معين من الأعمال والوظائف، وفئة الرعاة لا تخرج عن هذا السياق".
ويضيف ولد احميادة أن هناك عوامل اجتماعية أخرى كانت وراء تصنيف البعض في دائرتها " فحين يقوم فرد من الزوايا أو حسان بما لا ينسجم مع نظم وتقاليد المجتمع الذي ينتمي إليه يصبح تلقائيا خارجه فينتقل إلى مجتمع آخر، وحينها لن يتقبله مجتمعه الجديد في أعلى سلمه التراتبي، وسيبقى في الهامش يتولى مثل تلك المهام ومن ثم فإن الانتماء إلى هؤلاء لا يقوم كليا على النسب وإنما يرتبط بوضعية اقتصادية واجتماعية كذلك".
ورغم التهميش الذي تعرضت له "اللحمة" تاريخيا بموريتانيا فإنها لم تدخل دائرة اهتمام الحراك الحقوقي الذي طالب بإنصاف شرائح وفئات تعرضت لمظالم تاريخية، وهو ما يعزوه الناشط الحقوقي عبيد ولد إميجن إلى "عوامل ذاتية، أهمها شعورهم العميق بالدونية وخجلهم من طرح قضيتهم على الرأي العام، وعدم انسجامهم في مكون اجتماعي موحد، فهم موزعون بين القبائل والجهات".
وأشار عبيد إلى عامل آخر "يتعلق بوجودهم في مناطق بعيدة عن مراكز الإشعاع المعرفي وغياب الوعي المدني والحقوقي في صفوفهم، مما يجعلهم يلجؤون للقضاء التقليدي والأعراف لحل مشاكلهم".
كما نبه إلى تناقص "اللحمة" بشكل سريع "بفعل ممارسة مكونات أخرى لمهنة الرعي، وتخلي الكثيرين من أفراد الشريحة نفسها عن المهنة واللجوء إلى المدينة للاختفاء داخل نسيجها المجتمعي هربا من النظرة الدونية التي ظل المجتمع التقليدي يرمقهم بها".
المصدر : الجزيرة