منذ ظهرت لآدم وحواء عوراتهما وطفقا يغطيناها بورق التوت في الجنة، وللملابس دائما معانٍ مجاوزة لمجرد كونها غرضا نفعيا يقينا لسعة البرد وقسوة الطقس. للشعراء والحالمين، حملت الملابس الكثير من الصفات الشاعرية، فهي الكيان الأكثر اقترابا لأجسادنا، ذاك الذي يلتصق بنا ويتشكل في الفضاء على هيئتنا، فتقف على ناحية منه جلودنا في خجل وانكماش، وعلى الناحية الأخرى يُطل العالم الخارجي بكل ما فيه من صخب وفوضى، تلفنا الملابس كدرع رقيق، تحول بين هشاشتنا والعالم.
في الأدب والشعر، تصبح الملابس جزءا من الذات ومجازا عنها، جسدا خاويا تملؤه أجسادنا وتنفخ فيه الروح. تلك التي اشتريناها ولم نرتدها أبدا، وتلك التي ارتديناها مئات المرات ثم هجرناها، كلاهما كناية عن شيء حزين؛ ففي أقصر القصص المنسوبة للأديب الأميركي إرنست همنجواي -وأقصر القصص على الإطلاق-، عندما أراد أن يُعبّر عن موت جنين دون أن تبصر عيناه العالم قط، كل ما كتبه كان: "للبيع: حذاء لرضيع، لم يُلبَس أبدا"(1). وفي قصيدة لبابلو نيرودا يكلم فيها ملابسه ويصف فيها لحظة موته يقول: "أتساءل، إذا ما كانت رصاصة من العدو، ستتركك، يوما ما، ملطخة بدمائي".(2)
أما في عوالم علماء الاجتماع الأقل شاعرية، صارت الملابس سطحا تنعكس فوقه تفاصيل الصراع الطبقي منذ فجر التاريخ، واتفق علماء النفس أيضا على سلبها شاعريتها وجعلوها امتدادا للأنا الداخلية في المحيط الخارجي. وحده الفن أبقى على جزء من تلك الشاعرية، امتص الملابس واستخدمها في نواحيه المختلفة، وأصبح البعض يرى في تصميمها فنا في حد ذاته.
وفي عصور النهضة والحداثة وما بعد الحداثة، صارت الملابس التي نرتديها جزءا من كُل أكبر اسمه "الموضة"، وطبقا لآخر صيحاتها يتشكل مظهرنا الخارجي. ليبقى السؤال، كيف أتى كل هذا إلى الوجود؟
الموضة والصراع الطبقي
تكثر النظريات التي تحاول أن تشرح نشأة الملابس وتتعدد عبر العديد من العلوم، لكن تبقى أكثر النظريات جاذبية وبعثا على الدهشة هي تلك التي صاغها عالم الاجتماع الإنجليزي هربرت سبنسر في منتصف القرن التاسع عشر.
فوفقا لسبنسر، لم تنشأ الملابس للوقاية من برد ولا طلبا للحشمة، بل لسبب آخر تماما؛ فبعد أن يصطاد الصياد الماهر فريسته في المجتمعات البدائية، لم يجد وسيلة أفضل للتعبير عن نجاحه والتباهي به أمام الجماعة من سلخ الضحية وتغطية جسده بفروها أو جلدها، وذلك حتى يبروز تفوقه على أقرانه الأقل مهارة وقوة، وحتى يجعل ذلك التفوق ظاهرا أمام الجميع. كانت الملابس في طورها الأول إذن عند سبنسر أقرب شيء للأوسمة والنياشين التي تتزين بها سترات المحاربين القدامى لتشير إلى مدى تفوقهم في أرض المعركة.(3)
لكن المعركة لم تعد ساحتها الوحيدة هي الحرب، فسرعان ما انتقلت إلى الحياة اليومية بعد أن انسحبت عنها الأسلحة والدماء لتصير أقل عنفا لكن ليس بالضرورة أقل ضراوة. فصارت الملابس ذات الأسعار الغالية والخامات النفيسة بديلا لفروة الحيوانات عند الصياد والوسام عند المحارب للتعبير بشكل واضح أمام الجميع عن التفوق الطبقي. لكن الطبقات الأقل حظا لم تقف مكتوفة الأيدي، ومما فعلت كان أن نشأت الموضة.
يقول سبنسر: "طالما سعت الطبقات الأدنى للترقي عبر تقليد العلامات المميزة للطبقات الأعلى"، وقد كانت إحدى أهم تلك العلامات بالطبع هي الملابس. فعبر تقليد أزياء الأثرياء، حاولت الطبقات الأدنى أن تبدو كما لو أنها تنتمي إلى طبقة أعلى.(4)
الأمر قريب الشبه بممثل يستحضر شخصيته ويعايشها عبر مظهرها وملابسها، يقول جورج أورويل: "قد لا تملك أكثر من ثلاثة قروش في جيبك ولا أي فرصة في العالم، لكن في ملابسك الجديدة، تستطيع أن تقف على جانب الطريق وتنغمس في حلم يقظة عن نفسك كواحد من نجوم هوليوود".(5) وقبل أن يكون هناك هوليوود، كان الأثرياء والطبقة الأرستقراطية هم نجوم المجتمع، أولئك الذين لا يملك الأفقر منهم سوى التطلع إليهم من بعيد واقتراف محاولات بائسة في أن يبدو مثلهم.
أخذت الطبقات الأدنى إذن تسعى لتقليد مظهر الطبقات العُليا، بخامات رديئة وصناعة غير مُتقنة حاولوا الاقتراب لهيئة الأثرياء. ماذا كان الدافع وراء هذا التقليد يا تُرى؟ ليس دافعا واحدا عند الجميع بل دافعين.
عند البعض، كان تقليد الطبقات العُليا ينبع عن نوع من الاحترام، فالنظر إلى أولئك ذوي الجاه والسلطة والمال ولّد عند الطبقات الدنيا رهبة وإجلالا ورغبة في محاكاة طريقة عيش هؤلاء ولو بأكثر الأشكال سطحية. أما عند البعض الآخر، نبع التقليد عن منافسة خفية وضغينة مضمرة. فبمحاكاة مظهره، وجه الأدنى للأعلى رسالة مفادها أنه ليس مميزا كما يظن، أن الاختلاف بينهما ليس عميقا لهذا الحد، فها هو بخامات بسيطة يبدو قريب الشبه منه، وها هو الحاجز الفاصل بين عالميهما يأخذ في التلاشي.
وماذا كان رد فعل الطبقة العليا على هذا؟ بالطبع لم يعجبهم الوضع، لكن لم يملك الأثرياء وذوو السلطة في عصور النهضة والديمقراطية أن يمنعوا أي أحد من ارتداء الملابس التي يريد. ما تمكنوا منه بالرغم من هذا هو تغيير مظهرهم هم أنفسهم. سار الأمر كالآتي: في البداية، عند استحداث الأثرياء موضة جديدة، كانت تلك الموضة تبقى لبعض الوقت أسيرة قصورهم ومجتمعاتهم المغلقة، لكن ما إن يراها العامة ويحاولون تقليدها فتصل إلى الشوارع والطرقات وتصبح شائعة، حتى يسارع الأثرياء في تغييرها واستحداث أخرى مختلفة. وفي تلك الجديدة، تُعاد الكرة؛ فكانت الموضات وفقا لسبنسر وعالم الاجتماع ثورستين فيبلن أقرب شيء لرقصة بين غريمين بخطى لاهثة آخذة في التسارع.(6)
قد يتساءل البعض، لماذا لم تظهر الموضات إذن إلا في العصور الحديثة والهوة بين الطبقات قديمة قدم الحضارة؟ الإجابة بسيطة: فالموضة إن كانت قد نشأت عن تقليد الطبقات الدنيا للطبقات العليا، فذلك التقليد لم يكن مسموحا به من الأساس في العصور القديمة. فعند الكثير من الحضارات، كان لكل طبقة ومهنة أزياؤها المنصوص عليها من قِبل السلطة، ولم يكن ارتداء أي شخص لملابس غير تلك التي توافق طبقته ومهنته بالشيء الذي قد يمر مرور الكرام. ففي الصين مثلا، لم يكن مسموحا لأي شخص سوى الحاكم أن يرتدي اللون الأصفر، وفي اليابان، فلون الكيمونو (الرداء التقليدي في اليابان) وخامته وعدد طبقاته كانت كلها تُستخدَم للدلالة على الطبقة التي ينتمي إليها صاحبه.(7)
وبالرغم من قوة نظريات سبنسر وفيبلن، فإنها تصلح فقط لتفسير كيف جاءت الموضة للوجود؛ أما بعد دخول عصور الإنتاج الضخم والعولمة الحضارية والثقافية، فقد صار الأمر أعقد بكثير من أن تشرحه نظريات الصراع الطبقي وحدها.
كيف تغير شعبا عبر ملابسه؟
لم تأت الموضات والتغييرات الواسعة في أشكال الأزياء دائما بانسيابية وسلاسة، ففي أكثر من حالة وأكثر من مكان فُرِضَ تغيير الأزياء بشكل تعسفي من قِبل السلطة.
فكما أشرنا في البداية، لم تقتصر الملابس يوما على كونها محض أقمشة تقينا البرد والطقس، فتمتد ملابسنا لتصبح جزءا لا يتجزأ من هويتنا ذاتها، حيث نُسْقِط على ما نرتدي الكثير من قناعاتنا واهتماماتنا، ونجعل من ملابسنا لافتة تحمل فوقها أفكارنا ومعتقداتنا التي نتماهى معها ونعتز بها. ولا يتوقف الأمر على الأفراد فقط، فملابس الجماعة أيضا تعكس هويتها ومعتقداتها وتميزها عن غيرها من الجماعات؛ وهذا بالضبط ما أدركه بيتر العظيم، قيصر روسيا، في أواخر القرن السابع عشر، عند بداية إصلاحاته بروسيا والتي بدأت أول شيء بالملابس.
حسنا، لم تبدأ من الملابس بالضبط، بل من اللحى؛ فعند عودة بيتر من جولته في أوروبا التي استمرت 18 شهرا ورؤيته لمدى التقدم الذي أحرزته البلدان الأوروبية، قرر أنه سيجعل من بلاده نسخة طبق الأصل من أوروبا. وبينما حافظ الأوروبيون على لحاهم حليقة، اعتاد الرجال في روسيا على إطلاق لحاهم التي رأوا فيها رمزا للرجولة والورع. لم يعجب الأمر بيتر بالطبع، فكان أول ما فعله هو إصدار فرمان بضرورة حلق كل الرجال للحاهم وفرض ضريبة باهظة على كل من يمتنع عن هذا. وما بدأ باللحية لم يتوقف عندها، فسرعان ما تبعتها فرمانات أخرى تأمر الجميع رجالا ونساء بنبذ الرداء الروسي التقليدي واستبداله بأزياء ألمانية ومجرية.(8)
ولم تكن تجربة بيتر مع روسيا في التغريب القسري عبر الملابس هي الوحيدة من نوعها. ففي القرن العشرين، كان عبر الملابس أيضا -بالإضافة إلى إجراءات أخرى أكثر تطرفا- أن حاول مصطفى كمال أتاتورك أن ينزع عن تركيا كل ما هو شرقي في هويتها ويلصقها تماما بالغرب.
يقول أورهان باموق في كتابه "إسطنبول الذكريات والمدينة": "لا تقدم تعليقات أندريه جيد (روائي فرنسي) عن رحلاته في تركيا سوى الكراهية، فحين يقول إنه يكره الأتراك، فإنه لا يستخدم المصطلح بطريقة الزهو القومي التي كانت تنتشر تدريجيا، ولكن باعتبارها وصمة عرقية، الملابس التي يرتديها الأتراك بشعة، لكنهم لا يستحقون أفضل. وبعد نشر الكتاب بعام واحد، قام أتاتورك، أعظم المستغربين، بثورة في الملابس ومنع ارتداء كل ما ليس غربيا". (9)
وفي غضون أشهر قليلة، اختفت الملابس الشرقية والعربية التقليدية التي ارتداها الأتراك لقرون لتستبدلها الملابس الغربية. هنالك الكثير من الكتابات التي توضح لنا أن لا الروس في القرن السابع عشر ولا الأتراك في القرن العشرين كانوا راضين تماما عن تلك "الثورات" في الأزياء؛ فحملت ملابسهم القديمة معها جزءا من ذاتهم وتراثهم وهويتهم القومية، وهو بالضبط ما أراد بيتر وأتاتورك محوه.
في الأعوام القليلة التالية، لم يضطر أي حاكم أن يفرض على شعبه ارتداء الزي الغربي، فقد استطاع ذلك الأخير أن يفرض نفسه بقوة على الجميع. وإن نظرت حولك الآن، سترى الكل يرتدون تنويعات على الأشياء نفسها؛ تنويعات، وإن بدت باهرة في تنوعها واختلافها، تظل كلها ناشئة عن حضارة واحدة فقط، في الوقت الذي تأخذ فيه باقي الأزياء التقليدية في الاندثار.
إن عدنا للوراء قليلا، تحديدا لعام 1910، فسنرى صورا بالغة الجمال التقطتها كاميرا أوجستس فرانسيس شيرمان العامل في مكتب الهجرة في جزيرة إليس الأميركية للمهاجرين من شتى بقاع الأرض. في تلك الصور، ارتدى كل مهاجر زيه القومي، ووقف أمام شيرمان ليصوره. نستطيع أن نرى الآن ثماني عشرة من تلك الصور، وفيها يرتدي كل شخص زي بلاده الخاص، ويقف في تميز وفرادة. أما الآن، فثماني عشرة صورة لأشخاص من مختلف البلدان ستبدو على الأرجح كلها متشابهة. (10)
قديما، حلم هربرت سبنسر بعالم حر تماما، ديمقراطي مئة في المئة، ورأى في ذلك العالم كل شخص يرتدي ما يحلو له ويعبر عنه، رأى مظاهر الجميع وهيئاتهم تتحلى بفرادة مطلقة وتميز عصي على الوصف، فلا تشبه ملابس أي شخص شخصا آخر. واليوم، ونحن في عالم حر قليلا، وديمقراطي بعض الشيء، فالكل، من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، يشبه الكل. (11)
مها فجال :محررة فنية