مع استقلال موريتانيا ،1960 والشروع من الصفر في بناء عاصمة للدولة المستقلة في سهل مقابل لشاطئ المحيط الأطلسي، كان عدد سكان العاصمة الوليدة لا يتجاوز آنذاك سبعة آلاف نسمة، وكان لشح الموارد دور كبير في ظهور أحياء الصفيح العشوائية في ضواحي العاصمة التي بدأت تستقبل موجات المهاجرين من الريف جراء الجفاف الذي ضرب البلاد في الستينات والسبعينات .
كان من أول الأحياء التي آوت القادمين من الداخل حي السبخة الذي تحول لاحقاً إلى مقاطعة إدارية في العاصمة .
وفي بداية السبعينات ومع تزايد وصول المهاجرين بدأ سكان الحي الجديد يرنون لبناء مسجد في حيهم يمكنهم من تأدية صلاة الجماعة واستيعاب العدد المتزايد من المصلين .
وهكذا ولدت قصة ثالث مسجد بني في العاصمة نواكشوط، وهو المسجد الذي سيكون له دور رائد كما سنعرف لاحقاً .
تأسس المسجد العتيق بالسبخة في الفترة ما بين 1973 و1976 على يد المؤسس الأول الإمام محمود ولد عبد القادر بدعم من الحكومة الموريتانية في عهد الرئيس الراحل المختار ولد داداه . وخصصت أرض كبيرة للمسجد بمساحة أكثر من 3 آلاف متر مربع . توجد بناية المسجد في الجانب الشرقي منها، فيما بنيت المدارس الدينية التابعة للمسجد في الجانب الغربي، وتفصل بينهما ساحة واسعة تستخدم للصلاة بالنسبة للذين تضيق بهم جنبات المسجد .
وبعد وفاة مؤسسه الأول تولى إمامته وإدارته من بعده أخوه الإمام محمد ولد عبد القادر وبعد وفاة هذا الأخير تولى الإمامة من بعده ابنه عبد الرحمن ولد محمد ولد عبد القادر وهو الإمام الحالي للمسجد .
مدارس المسجد
وتوجد بالمسجد حالياً 3 محاظر (مدارس دينية) إحداها يطلق عليها محظرة الهدى، وتهتم بتدريس القرآن والفقه وعلوم اللغة العربية ويوجد بها نحو 90 طالب علم وهي تمنح الإجازة في العلوم الشرعية . كما تؤدي المدرستان الدينيتان الأخريان الدور نفسه .
وقد تخرجت من هذه المحاظر مجموعة من الطلبة المتميزين في مجال العلوم الشرعية، كمحمد الجكني، والشيخ محمدن ولد المعلى، ومحمد محمود ولد علي، ومحمد موسى ولد عبد الرحمن، وغيرهم . كما تخرج منها الكثير من حفظة كتاب الله، ومن الخريجين المتميزين الذين سيصبحون في ما بعد علماء وأئمة ودعاة في مناطق مختلفة من البلاد .
يقع المسجد العتيق بالسبخة في الجانب الجنوبي من مقاطعة السبخة ولا يفصله عن مقاطعة الميناء سوى شارع، وهما من أكثر المقاطعات كثافة سكانية . لكن المميز في سوق المسجد أنه يقع وسط الأسواق التجارية الشهيرة في المقاطعتين، وهما سوقا الميناء والسبخة اللذان يؤمها يومياً آلاف التجار والمتبضعين من شتى أنحاء العاصمة نواكشوط بل من جميع أنحاء البلاد .
وقد وفر ذلك للمسجد جمهوراً كبيراً ومتنوعاً ومتعطشاً لأداء صلاة الجماعة وكسب العلم بالرغم من الانشغال بالتجارة التي لا يهدأ صخبها في جوانب المسجد المحاط بالأسواق والمحال التجارية، والباعة المتنقلين والثابتين المنتشرين على الشوارع .
وهكذا كان الكم الكبير من المصلين هو رأس مال هذا المسجد الذي سرق الأضواء من جميع مساجد نواكشوط في الفترات اللاحقة .
ومن أهم ما يميز هذا المسجد هو أنه أول منبر انطلقت منه الدعوة الإسلامية بمفهومها الحديث، إذ انطلقت منه في التسعينات دعوة العلامة الموريتاني الشهير محمد ولد سيدي يحيى الذي كان يلقي من منبره طيلة عشر سنوات دروسه الأسبوعية بشكل منتظم .
وقد أحدث هذا العلامة النابغة ضجة كبيرة في البلاد بسبب روعة الدروس والمحاضرات التي يلقيها من منبر المسجد العتيق بالسبخة، وبسبب جرأته على السلطات ونعت الدولة بالعلمانية ونقدها نقداً سياسياً لاذعاً بسبب تخليها عن الدعوة وعن هموم الفقراء المساكين .
وكان لجرأة هذا العلامة دور كبير في استقطاب آلاف المصلين وطلبة العلم الذين رأوا فيه رجل حق وعالماً غزير العلم سخر نفسه للدعوة والوعي الإسلامي المعاصر من دون خوف من ملاحقة الأجهزة البوليسية التي كان يخافها الجميع في وقتها .
اللغة الثالثة
لكن المميز في تلك الدعوة أنها لامست شغاف قلوب العامة إذ حرص العلامة ولد سيدي يحيى على خدمة الوسط الاجتماعي للمسجد وإلقاء دروسه بما يمكن أن نسميه اللغة الثالثة التي يفهمها جمهور العامة، ومن هنا كانت الاستفادة الواضحة لآلاف العمال والتجار والمواطنين من محدودي المعرفة والاطلاع اللغوي، والذين بات المسجد العتيق بالسبخة وجهتهم المفضلة يومياً وأسبوعياً لينهلوا من معين العلم من دون أن يجدوا أنفسهم في واد آخر نتيجة للغة القاموسية التي كان يتبعها أكثر علماء وأئمة البلاد في تلك الفترة .
وبلغ الإقبال على هذا المسجد أوجه في نهاية التسعينات وبداية الألفية الجديدة، مع تصاعد وتيرة أداء العلامة ولد سيدي يحيى الذي تمكن ببراعة من نقل المعرفة الشرعية بالنصوص المقدسة إلى وسط العامة من جهة، وكثف من انتقاداته اللاذعة والساخرة للحكومات الموريتانية، ولمن يواليها من علماء السلطة الذين أطلق عليهم ولد سيدي يحيى لقب علماء بنافة، وبنافة وجبة أطاجين شائعة في منطقة المغرب العربي .
وأصبحت اليوم الأشرطة الصوتية الدينية التي لخطباء المسجد العتيق بالسبخة، هي الأكثر انتشاراً بين الأوساط الموريتانية . بل يمكن القول إن المسجد العتيق بالسبخة هو أول من أطلق ظاهرة الأشرطة الصوتية الدينية في موريتانيا . حيث تعتمد اليوم فئة كبيرة من المواطنين على تعلم المزيد عن دينها من تلك الأشرطة .
وكان للصحوة الدينية التي أطلقها ولد سيدي يحيى من منبر المسجد العتيق بالسبخة دور مشهود في إقبال الناس على دينهم، وفي فهم النصوص الدينية فهماً حديثاً، وهو الجو الذي سمح بظهور وتخريج العشرات من العلماء والأئمة والدعاة ورجال الدين الذين فهموا أن خدمة الدين الإسلامي لا تكمن في الاعتكاف بين أمهات الكتب فقط وإنما تكمن في النزول إلى الناس وتوعيتهم وتعليمهم وتثقفيهم في الدين ومعايشة واقعهم .
وهكذا قدر لالمسجد العتيق بالسبخة أن يضطلع بهذا الدور في فترة مهمة وأن يكون منبراً له مع استمرار السنين، وهو الدور الذي لا يزال يقوم به من خلال مجموعة بارزة من العلماء والدعاة الذين جعلوا من هذا المسجد منطلقاً للتعلم وبث العلم .
ويمكن القول من دون مبالغة إن المسجد العتيق بالسبخة غير الكثير في حياة المواطنين الموريتانيين، وأعطى دفعة قوية للدعوة ونشر الدين والعلم في هذه الربوع .
المصدر : (الخليج الاماراتية)