جلسات الموسيقي في موريتانيا طرب وذكرى وحماسة

10 ديسمبر, 2017 - 23:55

السعادة تكتمل بالشاي والشواء

الموريتانيون بطبيعتهم شعب يعشق الموسيقي، ويطرب الكبير والصغير منهم، في جلسات الغناء التقليدية.ومن المعتاد أن تستضيف الاسر الفنية الموريتانية في المدن والأرياف بين الفينة والأخرى مجالس طرب مفتوحة لمتذوقي الفن ومنتجي الأدب، وتبدأ الحكاية، كما يسمي الموريتانيون جلسة الطرب من أول مقامات السلم التقليدي الموسيقي الموريتاني المتوارث عبر القرون، بمقام كر، الذي يختص بالشعر المديحي، وفيه تأخذ الاحبال الصوتية للمطرب الموريتاني دقائق من هدوء النبرة. بعدها يدخل الفنان مقام الحماسة المعروف محليا باسم فاغ، الذي يتطلب انشادا خاصا، فيه ترتفع نبرة المطرب، وتحكي نغمات الأردين والتيدينيت الآلتين التقليديتين الموريتانيتين كر وفر الفرسان في حومة الوغى، حتى تكاد تسمع حمحمات الخيول في المعارك.

حينها يستبد الطرب بالموريتاني المعجب رغما عنه بالبطولة والأبطال.ولعل من الطريف أن الموريتانيين القدماء كانوا يخوضون المعارك وبصحبتهم الفنانون الذين يحضون المقاتلين من الطرفين على الإقدام، فقديما كان الفنانون الموريتانيون يلعبون دور المراسلين الحربيين، لكن مع فارق أن المراسلين عادة ما يكونون محايدين ينقلون الخبر كما هو، ما لم يكونوا من إحدى الدول التي تخوض الحرب، ويهمهم في الغالب نقل صورة من الميدان، غير أن الفنانين الموريتانيين دخلوا الحروب، ووقفوا في أرض المعركة ولا يعلو على صوتهم إلا صوت ألحانهم، بل إن بعض الحروب نشبت بسبب فنان.

بعد الحماسة يدخل على الخط مقام لكحال أو السواد، وله مواويله الخاصة به المنتقلة أحيانا بين الشعرين الفصيح والشعبي، وله ذواقته المسالمون الذين لا تستهويهم ملاحم المعارك ولا يستخفهم صليل السيوف الآتي من الماضي السحيق. يأتي دور مقام لبياظ أو (البياض) وهو مقام كسابقه يراوح بين الشدة واللين، ترتفع فيه النغمة أحيانا، ويتسارع الإيقاع الناظم لجملة المطرب والآلة، قبل أن يتباطأ، وهكذا دواليك.

بيت القصيد أن تقف التيدينيت على مقام المسمى لبتيت، مخزن الشجن الموريتاني الجميل، ومستودع المقطوعات الرائعة التي جادت بها قرائح الموريتانيين، بكاء على أطلال المنازل الصحراوية، وأزمنة الصفاء بين ربوع البادية، وتذكارا للزمن الجميل، الذي هو في لا شعور أي شخص موريتاني حنين لا إرادي إليه. حينها تستخف الموعظة بسامع رنات العود، وتلهج الألسن بعبارات التوحيد، وتسليم الأمور لله عز وجل البارئ ومدبر الأكوان، ولا غرابة إذا ما سالت عبرة من جفن رجل تذكر أزمانا قديمة، وانبرى في لحظة خشوع دامعة راجعا إلى المولى الكريم.. فهذا لا يغير من جو جلسة الطرب الموريتانية.

تغص مجالس الطرب الموريتانية المفتوحة بالجميع، ومن المعتاد أن تشهد ميلاد قطع أدبية طازجة، يغني المطرب أو المطربة غالبا أشطرها الأولى قبل أن تولد الأخيرة، ولا عجب فالموريتانيون يملكون في الغالب طبيعة الارتجال، خصوصا في مواقف المسابقات التي تعد جلسة السماع من أمهاتها.

والكثير من علية القوم يفضلون أن تركب (العبارة من القاموس المحلي وتعني بدء جلسة الطرب) لهم التيدينيت في جلسات خاصة، عادة ما تكون خارج المدينة، أو الحي البدوي، وبعيدا عن صخبها وضوضائها وفضولية الجمهور الذي يدخل بلا استئذان مجالس الطرب المفتوحة.

وينطلق الموريتانيون في ذلك من أبعاد تمليها عليهم تقاليدهم التي تمنع الصغير من الطرب للموسيقا بحضرة الكبير، ففي ذلك تجاوز للآداب وخروج عن قوانين الاحترام المجتمعية. وبنفس المنطق فإنه يعد من عدم الاحترام استماع الكبير للموسيقا بحضور من هو أصغر منه، لأن أدبيات الاحترام متبادلة في المجتمع الموريتاني.

وتعد الموسيقي التقليدية من لوازم الضيافة في البروتوكول الرئاسي الموريتاني، فلا بد من إقامة سهرة فنية لأي ضيف يزور البلاد، تستعرض فيها الأسر الفنية عضلاتها لإسماع الضيوف لونا موسيقيا لم يألفوه ويشكل بالنسبة لهم سياحة موسيقية. كما أن الموسيقا من أساسيات الحملات الانتخابية، وهي موسم نموذجي للفنانين الذين يتسابق إليهم السياسيون حينها، ولا ينتشر الالتزام السياسي في الفنانين، إذ يعتبرون أنفسهم ملكا للجميع، غير أن الفنانة الشيخة المعلومة بنت الميداح عرفت بالتزامها السياسي مع حزب تكتل القوى الديمقراطية المعارض.

جلسات الطرب الموريتاني أصبحت موضة للجميع، وأصبحت جلسة السعادة بلوازمها الثلاث: الطرب والشاي والمشوي.. هذا المثلث الذي بات شعار رجال ونساء البرجوازية الموريتانية، المولودة للتو على الرمال. وإن كانت جلسة الطرب والشاي والمشوي قديمة ومعروفة منذ قرون.

هذه الجلسات باتت بالنسبة للبعض من رجال الأعمال والسياسية ورجال الأدب وحتى الطبقة المتوسطة تقليداً متبعاً حسب ما يسمح به الوقت، فهناك من يحرص على حضور جلسة موسيقية أسبوعية، والآخر جلسة شهرية، أما الجلسة السنوية فلا أقل منها بحسب أحد هواة الطرب.

وتقول النجمة الغنائية الموريتانية الشهيرة لبابة بنت الميداح في هذا المجال هناك نوعان لهذه الجلسات، إما أن يقوم الضيوف هواة الطرب بزيارة الفنان في بيته، وفي هذه الحالة فهم ضيوف عليه يقدم لهم الطعام ويقوم بالغناء لهم مجانا، وإما أن يقوم البعض بدعوة الفنان إلى بيته أو إلى مكان يختاره للاستمتاع بالغناء والموسيقي، وفي هذه الحالة فالفنان لا يحدد أي سعر مقابل خدماته بل يترك الأمر لكرم مضيفيه.

وتبدأ جلسات الطرب عندما يقوم أحد القوم باختيار مجموعة من الأصدقاء والذهاب إلى فنانه المفضل أو استدعائه، على أن البعض يفضل أن يكون الجلسة الطربية خاصة بشخصه حتى لا يعكر أحد صفوه فهو يريد أن يسمع مباشرة ومن دون شهود حتى يصقل وذنيه، أي يغسل أذنيه مما علق بهما من ضوضاء الحياة وأصواتها النشاز.

ضد الكآبة

الموسيقي تحضر في ظروف الحياة العادية في موريتانيا بكل صورها، وحتى أن بعض الأدباء الموريتانيين يصفونها لبعض مرضاهم الذين يعانون الكآبة.

ومن طريف الأمر أن الكثيرين ينتهزون الفرصة عندما يعلمون أن فنانا ما سيقيم جلسة أو سهرة غنائية على شرف شخص استثنائي، فيتوجهون إلى المكان المعلوم ويستمتعون مجانا بما رنمته الأوتار والحناجر وما حملته الموائد.

آلات دخيلة

يرى عدد من محبي الطرب الموريتاني الأصيل في اتجاه غالبية الفنانين إلى تسريع النمط الغنائي واستخدام آلات دخيلة تهديدا للموروث الموسيقي الموريتاني الصافي، الذي يرون أنه يجب أن يبقى كما كان وفاء لذكرى أزمنة إمارة أولاد مبارك التي شهدت فيها الموسيقا الموريتانية عصرها الذهبي.

وفي المقابل، يدافع الشباب من متذوقي الطرب الموريتاني عن إدخال الآلات والأنماط الوافدة في الموسيقي على أنه من ضرورات العصر وتجاوب مع مقتضياته، فلم يعد البلد قرية معزولة، حسبهم رأيهم، لا يعيش فيها الإنسان التأثر والتأثير.

وبين الرأيين تبقى الموسيقي بطبعتيها في موريتانيا سيدة الموقف، والشاهد على الأفراح ومخلدة الأمجاد، ومذكرة الأحفاد بخصال الأجداد.

الخليج الاماراتية