عندما ترتفع درجة الحرارة في العاصمة نواكشوط إلى مستويات الفرن الساخن، وتتحول الشمس إلى قبعة جحيم تكاد تطبق على الرؤوس، يكون التفكير في السفر لمسافة خمسمئة كيلومتر ذهاباً وعودة إلى أرض إنشيري أشبه بالمهمة المستحيلة، لكن أجمل الظروف هي التي تجتمع فجأة ومن دون مقدمة، فها هي مجموعة من الخواص تتصل بي مستفسرة ألم تعرب سابقاً عن رغبك في السفر إلى ضريح الشريف المولود لتكتب عنه موضوعاً لمصلحة الخليج؟ لدينا كل شيء . . سيارة رباعية الدفع مكيفة، وسائق ماهر، وخروف مشوي ومقبلات . كان ذلك حديث محام موريتاني مشهور، وعندما تواعدنا عند البوابة الشمالية للعاصمة نواكشوط، فوجئت بأن الأديب والمؤرخ الحسن ولد محنض ضمن هذه الرفقة، وبادرني بالقول مازحاً القوم اليوم ليسوا صائمين .
تنطلق السيارة على طريق مدينة أكجوجت (265 كلم شمال نواكشوط)، ويسير السائق بسرعة قياسية، حيث تتراءى من حين لآخر قرى وبلدات وخيم بدوية متناثرة على السهل الواسع كقطع الجواهر في جيد حسناء، يحاول السراب التلاعب بالناظر موهماً إياه بأنه يسير على خط فاصل بين نهرين عظيمين، وعلى بعد 210 كلم نصل إلى اللافتة التي تشير إلى منعرج الطريق المؤدي إلى قبر الشريف، عندها تحتم طبيعة الأرض الصخرية السير بحذر شديد في هذه الفلاة المعروفة بوعورة الاهتداء فيها، وسهولة التيه وربطان الرأس، كما يقولون في المنطقة، أي أن يفقد المسافر القدرة على تحديد الاتجاهات، وهكذا نسير وفق إرشاد الطريقة المحلية لتحديد الطرق، حيث قام محبو الشريف المولود بوضع صخور مطلية بلون أبيض عند كل خمسين متراً على الطريق، وهكذا بدا أن هذه الصخور التي تشبه شكل حبات السبحة وتمتد إثنى عشر كيلومتراً، هي ضمان الزوار للوصول إلى القبر من دون الخوف من الضياع في أرض إنشيري القاسية الواسعة التي تشبه الصور الملتقطة لتربة المريخ في لونها وحتى في بعض تضاريسها الظاهرة .
تطلب قطع مسافة 12 كيلومتراً بين الطريق المعبد وقبر الشريف قرابة نصف الساعة بسبب مطبات الطريق، والتوقف من حين لآخر لتحديد طرق مقابر أخرى في المنطقة، قبل أن يلوح في الأفق وادي اندر، ويعني في اللهجة الصنهاجية الغدير، ويقع على بعد ثمانين كيلومتراً شرقي شاطئ المحيط الأطلسي، وعلى بعد 58 كيلومتراً جنوب غربي مدينة أكجوجت .
يتميز الوادي بالكاد بانخفاضه، وبأشجاره القليلة، وهو وادٍ تمر منه السيول التي تتهاطل في موسم الخريف على جبال إنشيري وآدرار، ويروي السكان المحليون أن الأمطار حين تتهاطل على جبال آدرار الواقعة على بعد مئات الكيلومترات إلى الشمال، فإن السيول تصل إلى وادي اندر خلال ساعات فقط، بسبب وقوع الوادي في منخفض سهلي صخري، ولذلك فإن سكان المنطقة لا ينصبون خيامهم ولا ينامون في أي فصل من فصول السنة إلا فوق الصخور الداكنة اللون والمنتشرة على ضفاف الوادي خشية أن يأتي السيل على حين غرة تحت جنح الظلام، ويجرفهم وهم نائمون كما حدث عدة مرات في ذاكرة أسلافهم، الشيء الذي برهنت عليه الأشجار النائمة في سهل الوادي بفعل سيل الخريف المنصرم، ولا يزال بعضها أخضر رغم سقوطه، مستمداً نسغ الحياة من بقية جذور ما تزال ضاربة في أعماق التربة . . إنها الأشجار التي تعيش نائمة .
ها هي لافتة أخرى تنبئنا أن القبر على بعد أربعمئة متر فقط إلى الشمال، وقد أصبح على مرأى العين .
نسب شريف
تتوقف السيارة عند غرفتين بنيتا من قبل محبي المولود على بعد عشرين متراً إلى الجنوب من القبر الذي يتشكل من دائرة تعلوها صخور وعند جانبها الجنوبي نصبت ألواح أسمنتية تعرف بصاحب القبر ونسبه، ففي هذه الدائرة دفن المولود وأبناؤه الأربعة يوم مقتلهم، وهم أول من دفن في هذا المكان، ومن حولهم يوجد قرابة ثلاثين قبراً، وأغلبها لا توجد عليه أي علامة دالة على صاحبه .
المولود هو أحد القلائل في موريتانيا، الذين يجمع المؤرخون والنسابة الشناقطة على صحة نسبهم إلى آل البيت رضوان الله عليهم .
وكما في كتب التاريخ وشجرة الأنساب، كتب على لوح صخري منصوب عند القبر نسب المولود وهو: المولود بن محمد بن إبراهيم بن داوود بن إدريس بن عبدالرحمن بن عبد المالك بن قنون بن خالد بن عبدالرحمن بن خالد بن عبدالعزيز بن محمد بن أحمد بن إدريس الأصغر بن إدريس الأكبر بن عبدالله بن الحسن المثنى بن الحسن السبط بن علي كرم الله وجهه .
قصة استشهاد المولود
منذ قرابة 500 عام يحفظ الموريتانيون قصة استشهاد الشريف المولود وأبنائه الأربعة، فقد نزل هذا الشريف بأرض إنشيري في القرن التاسع الهجري، وكانت أرض موريتانيا كلها في ذلك الوقت وحتى مجيء الاستعمار الفرنسي سنة ،1905 فضاء لعدم الاستقرار وغارات النهب والسلب التي تقوم بها مجموعات قبلية مسلحة تعرف بالغزيان .
وكان المولود في مضارب عائلته الخاصة عند بئر اندر حين أغارت عليه مجموعة مسلحة وقتلوه بدم بارد مع أبنائه الأربعة، ولم تترك إلا النساء والأطفال، وقامت المجموعة المغيرة بالاستيلاء على الماشية القليلة التي كانت تعيش عليها عائلة المولود، لكن القتلة لم يبتعدوا أكثر من مائتي متر وهم يسيرون خلف الماشية التي نهبوا حتى وجدوا أنفسهم وجها لوجه وبشكل مفاجئ أمام مجموعة مسلحة أخرى تمارس النهب ومتفوقة عليهم في العدة والعتاد، وقامت بقتلهم مباشرة، حيث تم دفنهم في مكان مصرعهم، الذي يظهر بوضوح على بُعد نحو مئة وخمسين متراً إلى الغرب من ضريح المولود وأبنائه الأربعة . . في مشهد يدعو إلى التأمل في سخرية القدر .
ومما يروى أن المجموعة المغيرة على قتلة المولود لم تحمد فعلتها إلا بعد اكتشافها أن ضحاياها هم من قتلوا قبل لحظات هذا الشريف الذائع الصيت في البلاد كلها .
التحق المولود وأبناؤه الأربعة بسجل تاريخ عريق في الشهادة، وأحدث مقتله وأبناؤه غدراً ضجة كبيرة في المجتمع الموريتاني آنذاك واستنكاراً واسعاً في المنطقة، خاصة أن الرجل كان مع أبنائه منقطعين للعبادة ومعروفين بورعهم وتقواهم وزهدهم في الدنيا .
بنات يلدن العجب
ومن هنا بدأت قصة ميلاد جديدة، فقد تهافت أبناء الذوات للزواج من بنات الشريف المولود تبركا بآل البيت رضوان الله عليهم، ما جعل قبائل مشهورة اليوم في موريتانيا تفتخر بخؤولتها من آل الشريف المولود، وقد قيل في بناته أنهن يلدن العجب وفق تعبير محلي، أما الأطفال الصغار الذين خلفهم الشريف المولود وأبناؤه، فتنحدر منهم اليوم قبيلة أولاد المولود المعروفة في البلاد .
أصبح ضريح هذا الشريف أشهر المزارات الروحية في موريتانيا، ويروى الكثير من القصص عن كراماته، ويزوره العلماء والسياسيون والخاصة والعامة، ومن مأثور القول محلياً إن زيارة قبر المولود والدعاء له لا يتبعها إلا الخير، إذ يعتقد مريدوه أن زيارته تجلب الحظ السعيد، وأن الدعاء عند قبره مستجاب، كما يأخذ بعض الزوار كمية من تراب القبر للتبرك والشفاء من الأمراض، حيث يمسحون بها أجساد أفراد العائلة، التي تصل أحيانا بكامل زادها لقضاء مقيل أو مبيت عند الضريح، وكثيراً ما يتركون مواد وأغذية ومياهاً في الغرفتين المبنيتين عند القبر كصدقة على عابري السبيل، ويؤكد كل من زار قبر المولود أنه يشعر بسعادة وطمأنينة كبيرة لا توصف .
وتاريخياً يعد قبر المولود ثالث أقدم قبور الأولياء في موريتانيا، بعد قبري بوبكر بن عامر، مؤسس حركة المرابطين، والشيخ سيد محمد الكنتي، فيما يثور الجدل حول مكان قبر الإمام الحضرمي، قاضي دولة المرابطين .
الخليج الاماراتية