رّف شهر ربيع الأول بذكرى المولد الكريم، فما أعظمَها من ذكرى وأجلَّ بركتها للعالمين، وفي حين ظل العديد من فقهاء المسلمين متحفظين إزاء الاحتفال بهذه المناسبة، كانت أجيال من المحبين في غمرة الهيام والاحتفال، قد حسمت أمرَها ولم يلتبس عليها ما أشكل على طوائف الفقهاء معتبرة على لسان واقعها - إذا جاز التعبير - أن وجه العيدية في المولد النبوي إكبار وإجلال وتعظيم لهذه المناسبة لا يَخلعُ عليها التصنيف الخاص بعيدي الفطر والأضحى وأحكامهما التكليفية، ولم تدِّع هذه الأجيال يوما ذلك، فيا أهلا وسهلاً بكل مناسبة تعظيمية للحبيب أحرى ميلادا كان هو فاتحةَ مجيئه للدنيا، هكذا ظلت نظرة هذه الشعوب المحتفلة.
وقبلَ أن أبسطَ دررا من حديث في هذا الخصوص مع الشيخ الموريتاني اللغوي العارف، محمد الحافظ ولد أحمدو، يستوقفني تعبيران يمثلان صورة حية من فقه المحبة والحسم الشرعي عند بسطاء الأمة ممن لم يعقّد عليهم التغلغل العلمي الوصول إلى الأحكام بجلاء واطمئنان، فما أنسى ذات ليلة وقد جمعت أحدَهم مائدة العشاء مع آخرين وكان أن نحّى عن متناوَله جزءا لا يرغب فيه، فقيل له إنه القثاء التي كانت من طعام الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال: أشهدكم أنها الأحب إلي من الآن مبادرا لانتقائها وتجميعها إلى جانبه وهو يكرّر "اللهم صلّ عليه"، وأما التعبير الثاني ذو الصلة بالحسم الشرعي فتعليق من سيدة على هامش نقاش احتدم حولها وكان متعلقا بمسألة قراءة البسملة قبل الفاتحة في الصلاة وتجنب البعض قراءتها جهرا خوفاً من بطلان الصلاة فما كان منها إلا أن قالت: إن صلاة أبطلتها بسم الله الرحمن الرحيم كانت باطلة قطعا، إن للشعوب ميزانها الشرعي وتعلقها الروحي مما له تجلياته في عدد من المسائل الفقهية والعلمية ويمكن أن تعد مسألة المولد النبوي إحداها.
أما بخصوص درر الشيخ محمد الحافظ أحمدو، فيرى أن أعياد الإسلام مرتبطة في عدد منها بالأنبياء، فيوم الجمعة عيد الأسبوع مرتبط بخلق آدم عليه السلام، وعيد الأضحى مرتبط بإسماعيل، كما يشرح أن حديثي "نحن أحق منهم ـ أي اليهود ـ بموسى" في قضية تخليد يوم عاشوراء، وحديث "ذاك يوم ولدت فيه" كلاهما عن فكرة التخليد وإعطاء الخصوصية، وأما مسألة عدم الاتفاق على يوم الميلاد بالضبط وكون البعض قد توهم أن اليوم الذي يتم تخليده قد يكون يوم انتقاله للرفيق الأعلى فيبيّن ولد أحمدو أن الله أشار لثلاثةِ أيام مخلّدة للنبي عيسى "والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا، وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا" مما يشير إلى أن يوم الانتقال إلى الرفيق الأعلى يظل موعد تخليد تستعيد به الأمة كامل المُقام البهيج له معها عليه الصلاة والسلام، وتنشد مع حسّان في ألم: "وما فقد الماضون مثل محمد .. وما مثله حتى القيامة يفقد".
إلا أنه يستدرك أن 12 ربيع الأول هو يوم دخول المدينة المنورة وبالتالي يظل أيضا موعدا حقيقيا للاحتفال، إذا ما اختلفت المعلومات حول التاريخ الأكيد ليوم المولد، مستدلا بالمسيرة الاحتفالية التي نظمها الأنصار وجابت أنحاء من المدينة في ذلك اليوم، ولا يرى أن علاقة الفاطميين باتخاذ هذا التاريخ موعدا للاحتفال، مسوّغ صارف لأهل السنة وعامة المسلمين عنه، حيث إن الفاطميين مثلا هم من أسس الأزهر الشريف أبرز جامعة شرعية عرفت منذ القدم، ولا يُنفَر فيه ذلك، فما كان منهم من صالح قد لا يرفض بناء على الموقف الفكري منهم.
وللمحبين والمتيمّين فضاءات من الشوق والمحبة والتعلق والحنين وكلما حانت ذكرى أثارت لهم لواعجها وأضرمت الهمَّ فالتهب "وفي الجآجئ نار الشوق خامدة .. إن يبدُ برقُ الحمى للعين تتقدِ".
يعد كتاب الشفا في حقوق المصطفى للقاضي عياض تحفةً جميلة في باب محبة سيد البشر، هكذا كان ختام الحديث مع الشيخ محمد الحافظ أحمدو وهو يعلق على جمال الكتاب وبركته وروعته وعدم أهمية بعض التحقيقات في متون كتب المناقب، في منزَع جميل يروي في سياقه عن العالم الموريتاني، محمد سالم ولد ألما، أنه من غير الأدب البحث في صحة أحاديث المناقب.
نقلا عن العربي الجديد