السؤال
♦ الملخص:
شاب كان متزوجًا وماتتْ زوجتُه، ويريد الزواج لكن أهله يَمنعونه ويرفضون أي فتاة يريد التقدُّم لها، بحجة أنهم أعلى في الشرف والمكانة والحسب والنسب.
♦ التفاصيل:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أنا شاب مِن موريتانيا أبلغ مِن العمر 35 عامًا، تزوجتُ ابنة خالي ولديَّ منها طفلان وماتتْ رحمها الله، وحزنتُ عليها كثيرًا، لكن الحياة لا بدَّ أنْ تستمرَّ، وأنا أخاف الفِتَن كثيرًا.
فكرتُ في الزواج مجددًا، لكن أهلي يَضعون العقَبات، ويشترطون الشروط المُجْحِفة، والهدف مِن ذلك ألا أتزوَّج، وشرْطُهم أن تكون الزوجة مِن بنات العم، وليس لديَّ بنات عم غير متزوجات!
كلما خطبتُ فتاةً يقولون: لا تَصْلُح؛ لأنهم يَرَوْنَ أنفسهم أعلى من الجميع حسبًا ونسبًا وشرفًا!
أصبحتُ مَهمومًا مُشتتَ الأفكار، أقاسي الوَحْدة في بيتي بلا أنيس أو جليس، أكره الزنا، لكن أهلي يدفعونني إليه بتصرُّفاتهم.
فأشيروا عليَّ بارك الله فيكم ماذا أفعل؟ وكيف أتصرف؟
الجواب
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
نشكركم على تواصُلكم معنا، وثقتكم في شبكة الألوكة.
كما فهمنا مِن عَرْضِك للمشكلة أنها تتعلق بمعارضة أهلك لزواجك مِن خارج العائلة، ويشترطون عليك الزواج من بنات عمك، رغم عدم وجود خالية منهنَّ!
تبيَّن لك بعد ذلك أن المشكلة تكمن في اشتراط (المكانة الاجتماعية) أو الحسب والنسب في الزوجة التي ستقترن بها، وهذا الشرطُ (الحسب والنسب) وإن كان ضمن الشروط المأذون بها في الحديث الشريف المخرَّج في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه: ((تُنكح المرأةُ لأربعٍ: لمالِها، ولحسَبِها، ولجمالها، ولدينها، فاظفرْ بذات الدين ترِبَتْ يداك))، فهنا شرطُ الحسَب والنسَب شرط فرعيٌّ لا أصلي، وشرط تكميلي لا أساسي، فالأساسُ هو الدين والخلُق، وما عداه مِن الشروط فهي شروط تكميلية ترجع لرغبة الزوج نفسه، فشرطُ الجمال مثلًا لا يسوغ للأهل أن يتدخلوا فيه، فقد تبدو المرأةُ جميلة في نظرهم، لكنها قبيحة في نظر الزوج، والعكس بالعكس!
كما أنَّ شرط الحسب والنسب لا دَخْلَ للأهل فيه، إلا إن كان سيلحق بهم مَعرَّة بهذا الزواج، كأن تتزوج امرأة بغيًّا مشهورة بالزنا، فهنا يسوغ لهم منعك، أما ما عدا ذلك فلا يسوغ لهم المنع، بل هي مِن عادات الجاهلية القبيحة التي جاء الإسلامُ بتخليص الناس مِن آصارها وتنظيفهم مِن أوضارها.
"وقد ثبَت أنه صلى الله عليه وسلم زوَّج مولاه زيد بن حارثة بزينب بنت جحش القرشية، وزوَّج أسامة بن زيد بفاطمة بنت قيس القرشية، وزوَّج عبدُ الرحمن بن عوف بلالًا أخته، وقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا خطب إليكم مَن ترضون دينه وخلُقه فزوِّجوه، إلا تفعلوه تكنْ فتنة في الأرض وفساد عريض))؛ أخرجه الترمذيُّ مِن حديث أبي هريرة، فالأدلةُ الواردةُ مِن تطبيق الصحابة تدل على عدم إعطاء وزن للنسَب في مسألة الزواج.
وقد اختَلف الفقهاء في اشتراط الكفاءة في الزواج، بمعنى: أن يكون الزوجُ كفئًا لزوجته؛ أي: مساويًا لها في المنزلة، ونظيرًا لها في المركز الاجتماعي والمستوى الخلقي والمالي؛ فذهب ابن حزم إلى عدم اعتبار الكفاءة، وقال: أي مسلم - ما لم يكن زانيًا - له الحق أن يتزوج أية مسلمة، ما لم تكن زانية.
وذهب جماعة إلى أن الكفاءة مُعتَبَرة، لكن اعتبارها بالاستقامة والخلُق خاصة، فلا اعتبار لنسبٍ، ولا لصناعة، ولا لغنى، ولا لشيء آخر، فيجوز للرجل الصالح الذي لا نسب له أن يتزوج المرأة النسيبة، ولصاحب الحِرفة الدنيئة أن يتزوجَ المرأة الرفيعة القدر، ولمن لا جاه له أن يتزوجَ صاحبة الجاه والشُّهرة، وللفقير أن يتزوج الغنية ما دام مسلمًا عفيفًا، فإذا لم يتوفر شرط الاستقامة عند الرجل فلا يكون كفئًا للمرأة الصالحة، ولها الحق في طلب فسخ العقد إن كانت بكرًا، وأجبرها أبوها على الزواج من الفاسق، وهذا هو قول المالكية ومن وافقهم.
ويرى بعضُ الفقهاء أن ثمة أمورًا أخرى لا بد من اعتبارها في الرجل منها النسَب، فالعربُ بعضُهم أكفاء بعض، وقريش بعضهم أكفاء بعض، والأعجمي لا يكون كفئًا للعربية، والعربي لا يكون كفئًا للقرشية، وهو قولٌ للشافعية والحنفية.
ومنها الحرفة: إذا كانت المرأة مِن أسرة تمارس حرفة شريفة، فلا يكون صاحب الحرفة الدنيئة كفئًا لها، وإذا تقاربت الحِرَف فلا اعتبار للتفاوُت فيها، وهو قولٌ للشافعية، وروايةٌ عن أحمد وأبي حنيفة.
والراجح ما ذهبتْ إليه المالكيةُ مِن اعتبار الكفاءة بالاستقامة والخلُق على وجه الخصوص، وذلك لقوله تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾ [الحجرات:13]، ولقوله صلى الله عليه وسلم: ((إذا جاءكم مَن ترضون دينه وخلقه فأنكحوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير))؛ رواه الترمذي مِن حديث أبي حاتم المزني، وهو الذي رجَّحه ابن القيم فقال في زاد المعاد: فالذي يقتضيه حكمه صلى الله عليه وسلم اعتبار الكفاءة في الدين أصلًا وكمالًا، فلا تزوج مسلمة بكافرٍ، ولا عفيفة بفاجرٍ، ولم يعتبر القرآن والسنة في الكفاءة أمرًا وراء ذلك؛ انتهى مِن فتوى الشبكة الإسلامية.
وهكذا ترى أن العبرة في نهاية المطاف إنما تكون بالدين والخلُق، والعجبُ أن هذا هو الذي انتهى إليه المالكية في مذهبهم، والذي هو مذهب أهل المغرب العربي ومنها موريتانيا، فالمذهبُ يقف في صفك أيضًا.
عمومًا، نرى أن تحاول إقناعهم مرة أخرى، وأن تبحث عن الوسطاء والمستشارين المؤتمنين الذين يشيرون عليهم وينصحونهم، لا سيما أن وضعك مُهدَّد بالوقوع في الفاحشة، والزواج قد يكون عليك واجبًا في هذه الحالة، لذلك إن صحَّ وقوفهم أمام زواجك فقد يقعون في الإثم شعروا بذلك أم لم يشعروا.
نسأل الله تعالى أن ييسر أمرك، وأن يشرح صدرك، وأن يزودك التقوى
والله الموفق
المصدر هنا