نواكشوط – «القدس العربي»: بدت موريتانيا أمس برئيسها وشعبها وبموالاتها ومعارضتها، سكرى وما هي بسكرى ولكن الموت الذي غيّب العقيد علي ولد محمد فال فجأة، كان شديداً.
وقع خبر موت ولد فال أب الديمقراطية الموريتانية و»سوار ذهبها»، بسكتة قلبية فاجأته وهو بين إبله في صحراء منطقة «مجيك» شمال غرب مدينة الزويرات الموريتانية، وقعاً شديداً أذهل الجميع وبدا خصمه السياسي وابن عمه الرئيس محمد ولد عبد العزيز متأثراً وهو يتوسط المصلين ويزاحم الدافنين.
وحدثت وفاة الرئيس ولد فال بينما كان المشهد السياسي الموريتاني منغمسا في معركة التعديلات الدستورية، فتوقف بسبب موته كل شيء، حيث علقت المعارضة تجمعاتها السياسية ولبست مسوح العزاء، ودخلت الموالاة في محاريب الموعظة والعبرة وكان الحزب الحاكم أول المعزين، ولا أحد يعرف الصورة التي سيتشكل عليها المشهد السياسي من جديد بعد افتقاد أهم لبنة في صرحه وبعد أن هزه هذا الزلزال العنيف.
وأطلق الموريتانيون وسم (#سامحوا الرئيس) ليلاقي الوسم آلاف المتقبلين المترحمين الباكين على رجل تذكر الجميع أنه مع توليه لعقدين إدارة أمن الديكتاتور ولد الطايع، لم يؤذ أحداً قط.
حتى الرئيس الأسبق ولد الطايع الذي قلب ولد فال نظامه عام 2005، كان من أول المعزين ومن أحرص المعتزين بصداقة الرئيس الراحل.
لم يبق كاتب ولا مدون موريتاني إلا ذرف دموعه على صفحات التواصل التي احمرت من بكاء المتأسفين على افتقاد ضابط كبير كرّس سنوات عمره الأخيرة لمهمة صعبة هي إرساء التناوب السلمي على السلطة في موريتانيا التي ظلت الانقلابات العسكرية أداتها الوحيدة للتداول ما عدا مرة واحدة كان الفقيد ولد فال بطلها عندما سلّم السلطة طواعية في إبريل 2007، للرئيس المدني المنتخب ولد الشيخ عبد الله.
في سرد لمراحل حياة ولد فال السياسية المضيئة، أكد المدوّن الكبير سيدي محمد سيدي «أن علي ولد محمد فال ظل شخصية وازنة داخليا ومؤثرة خارجية وتحظى بالكثير من الاحترام داخليا وخارجيا.»
وكتب السفير باباه سيدي عبد الله وكان من أعوان الرئيس الراحل: «في كل مراحل عملي مع الرئيس كنت شاهداً على مواقف وقرارات وطنية للراحل، وعلى شجاعته السياسية التي تستمد قوتها من شجاعة عسكرية في ميادين الحرب والذود عن حياض الوطن».
وانتقد السفير تعامل نظام الرئيس ولد عبد العزيز مع الرئيس الراحل فقال: «لعل النظام القائم يكفر عن بعض تصرفاته البائسة تجاهه وتجاه أسرته التي عاشت مضايقات لم تُرد لها أن تكون قضايا رأي عام، بدءاً بقطع التيار الكهربائي عن منزله، والمماطلة في تجديد جوازه الدبلوماسي، وحرمان أبنائه الأكفاء من التوظيف، وتسليط صحافة مسعورة ومأجورة للتحامل عليه بسبب مواقفه السياسية، ومصادرة بعض أملاك أخته فى مشهد بعيد عن العدل والإنسانية والمروءة».
وإذا كانت موريتانيا قد وجدت في العقيد علي ولد محمد فال خلال رئاسته للمرحلة الانتقالية 2005/2007 الضابط المؤمن بالديمقراطية الذي عدّل الدستور ليرسي التناوب السلمي بمواد محصنة، وأعطى المثال الرائع بتسليمه الرئاسة للرئيس المنتخب في اقتراع شفاف لم تستخدم فيه وسائل الدولة، فإنها كانت تعوّل في انتخابات 2019 الرئاسية، حسب المحللين، على العقيد ولد فال أيضا بصفته رجل المرحلة وصاحب التجربة في إعادة قطار الديمقراطية إلى سكته التي أخرجه عنها انقلاب 2008.
ومع أن الرئيس الراحل كان خصماً للرئيس الحالي محمد ولد عبد العزيز، فإن محللين بصراء بخفايا الشأن الموريتاني، يرون بأن الرئيس عزيز يطمئن أكثر في حالة ما إذا هزم مرشحه، لتولي العقيد ولد محمد فال الرئاسة بعده لأنه مقتنع بأن الرئيس ولد محمد فال لن يسلك طريق الانتقام ولن يتجه لنكء جراح الماضي، بل سيعمل على تهدئة الأمور بحكمته العالية.
وتظل المعارضة الموريتانية المشتتة والمخترقة، التي كانت على وشك الاتفاق على الرئيس الراحل مرشحاً موحداً لها، الخاسر الأكبر في غياب ولد محمد فال، وقد اتضح ذلك جلياً في بيان تعزية أكدت فيه «أن الفقيد عرف بالالتزام والتواضع وحسن الخلق وخدمة الناس وفعل الخير، وكان الرجل الشهم والضابط الشجاع والرئيس الحكيم والوطني والمناضل المخلص».
وقالت: «لقد خدم الرئيس علي ولد محمد فال البلد بتفان وإخلاص طيلة مساره المهني وظل يجعل مصلحة موريتانيا فوق كل اعتبار، وعندما ترأس الحكومة الانتقالية، عمل على تسيير البلاد بصورية توافقية، وحرص على إدخال إصلاحات جوهرية تعمق الديمقراطية وتضمن التناوب السلمي على السلطة، كما كان أول رئيس موريتاني يسلم السلطة لخلفه على إثر انتخابات شهدت لأول مرة كذلك حياد الإدارة تجاه الفرقاء السياسيين».
وأضافت: «ولما دخلت البلاد أزمة حادة على إثر انقلاب 6 أغسطس 2008 أخذ المغفور له بإذن الله موقفا قويا وصارما الى جانب القوى المدافعة عن مصالح الشعب وعن الديمقراطية، وظل يعمل بكل ما أوتي من قوة من أجل أن تعود موريتانيا الى جادة الطريق القويم، ومن أجل بناء دولة القانون والعدل والمساواة».
وشرح عدد من كبار المحللين السياسيين الموريتانيين لـ «القدس العربي» أمس آراءهم إزاء انعكاسات رحيل العقيد ولد فال على الساحة السياسية الموريتانية، حيث أكد المحلل السياسي اسماعيل يعقوب الشيخ سيديا «أنه
منذ انتظام الراحل علي ولد محمد فال في صفوف المعارضة، اتضح أنه كانت لديه أجندة انتخابية وطموحات رئاسية، حيث أنه شخصية مستقلة مع أن هناك حزباً في المنتدى المعارض يحسب عليه، وازداد الأمر تكريسا حين تقارب الراحل كثيرا مع المعارض الثري محمد ولد بوعماتو المهاجر إلى المغرب».
وقال: «لم يكن مستبعداً أن يتفق طيف سياسي عريض على ترشيح الرئيس الراحل للرئاسة في انتخابات 2019 خصوصا أن الشخصيات المعارضة التقليدية لم تعد السن القانونية تسمح بترشحها أعني أحمد ولد داداه ومسعود ولد بلخير، كما أن تجربة المرشح شبه الأوحد للمعارضة آتت أكلها مؤخراً في غامبيا وغانا، وأن مرشح الغالبية سيكون ضعيفا أو مغمورا سياسيا في أسوأ الأحوال، وبذلك تكون المعارضة والغالبية في موريتانيا غداة رئاسيات 2019 تعانيان من أزمة رؤوس».
أما الإعلامي البارز عبد الله ألفاغ المختار فيرى «أن تأثيراتُ غياب الرئيس علي ولد محمد فال عن المشهد السياسي ربما بدأت بالفعل، فحسب رأيي الشخصي فإن الرئيس الحالي محمد ولد عبد العزيز، كان يحسب أكثر من حساب لوجود ابن عمه في صف المعارضة، وعلى عدائهما المعلن».
وزاد: «لقد أقر الرئيس الحالي ضمنيا بقوة الراحل علي ولد محمد فال، وبكارزميته، إذ ما كان للانقلاب على ولد الطائع عام 2005 أن ينجح لولا تقديم ولد عبد العزيز ورفاقه في المؤسسة العسكرية لولد محمد فال كقائد لذلك الانقلاب».
وقال: «إجمالاً فإن الرئيس ولد عبد العزيز، لم يكن يخشى ابن عمه سياسياً، بقدر ما يخشى قدرته في أي وقت على زعزعة نظامه داخلياً وعلى مستوى المحافل الدولية، لذلك فإنني أتوقع أن يتعامل ولد عبد العزيز مع المعارضة تعاملاً جديداً، فقد غيّب الموتُ من تعتبره النخب الموريتانية صانعَ ولد عبد العزيز، ومُلهمَه، في فترة من الفترات، وأقوى أعدائه لاحقاً».
ويرى الصحافي حنفي ولد دهاه المدير الناشر لصحيفة «تقدمي»، جازما «إن رحيل ولد محمد فال هو رحيل لمرشح يطمئن له الجميع».
وأضاف: «لغياب ولد محمد فال انعكاس على الفعل المعارض في موريتانيا، فقد كان الرجل عسكريا مؤمنا بالديمقراطيه، متشبعا بها كما انجلى ذلك من خلال تسليمه السلطة بعد انقلابه على سلفه معاوية ولد الطائع، و بسطه للحريات خلال الفترة القصيرة التي حكم البلاد بما لم يسبق له مثيل فيها، ورغم الأواصر التي تربطه بولد عبد العزيز من حيث العلاقات الاجتماعية وأواصر النسب وكون الرئيس الحالي صنيعة الرئيس السابق، فقد عارضه لأنه انقلب على نظام مدني منتخب، ضارباً عرض الحائط بما يمكنه أن يستفيد من نظام يرأسه ابن عمه و ابن نعمته».
وقال: «معارضة ولد محمد فال أضفت نَفَساً جديداً للمعارضة الموريتانية، التي كانت تختنق بسبب خلافاتها الداخلية وعجزها عن النيل من نظام يمسك كل الأوراق، فعلاقاته الخارجية وسمعته الدولية ومصداقيته الداخلية، ومعرفته العميقة بالمجتمع السياسي الموريتاني، حيث تولى إدارة الأمن عشرين عاماً، ودهاؤه وبعد نظره ومعرفته الدقيقة بمكامن ضعف النظام القائم، خوّلته أن يضخ دماً جديداً في شرايين المعارضة».
وأضاف ولد دهاه: «حصل في الفترة الأخيرة شبه إجماع في المعارضة الموريتانية على أن ولد محمد فال وحده يملك المؤهلات التي تجعل منه مرشح المعارضة في 2019، في انتخابات لن يترشح لها ولد داداه ولا مسعود ولد بلخير ولا أحمدو ولد عبد الله، والتي تحتاج لمرشح لا ينتمي لحزب معين ولا تيار ايديولوجي وله خبرة وكفاءة في تسيير الشأن وفي التعامل مع المجتمع الموريتاني التقليدي المتذمر، ولخلفيته العسكرية أيضا حظها الكبير في انتدابه لتلك المهمة التي لها ما بعدها».