لم تكن بدايته، من حيث النشأة والأسرة، تنبئ بمولد زعيم، ولكن هذه النشأة نفسها هي التي ساهمت في تكوين فكره الاشتراكي، وميله نحو الطبقات الكادحة، ليصيغ من عرقها حبراً، كتب به تاريخ ثورة، تحالفت ضدها القوى الكبرى، ببساطة لأن صاحبها كان رجلاً استثنائيا، فهو من كان يحكم شعباً من "البدو" – والكلمة شرف لمن يفهمها- ولكنه تحدى أساطين حكام العالم.
هاتوا أيديكم…وافتحوا قلوبكم…وانسوا أحقادكم وقفوا صفا واحدا ضد عدو الأمة العربية عدو الإسلام عدو الإنسانية…الذي أحرق مقدساتنا وحطم شرفنا…وهكذا سنبني مجداً ونحيي تراثاَ ونثأر لكرامة جرحت وحق اغتصب"…كانت هذه هي كلمات البيان الأول لثورة الفاتح، ألقاها بنفسه الأخ العقيد "معمر القذافي". "معمر القذافي"…الذي وضعت رصاصة مجهول صاحبها حتى الآن، حداً ونهاية لفترة حكمه، التي دامت قرابة 43 عاماً، لم يكن بالرجل العادي في أعين الجميع، بعضهم تصوروه مجنوناً، وآخرون اعتبروه قائداً وزعيماً ورمزاً للحرية والمقاومة في وجه قوى الاستعمار الغاشمة، التي دائما ما تقودها الولايات المتحدة الأمريكية، ولكن الجميع يجمعون الآن — وبعد 5 سنوات من الإطاحة به — على أنه كان صاحب رؤية ومبدأ. هو معمر محمد عبد السلام القذافي، ابن واحدة من أفقر الأسر البدوية…تربى في صحراء قاحلة، لا تقيم أوده وأود أخواته البنات وأمه سوى شاتين، تحلب البنات الكبرى لبنها ليأكلوا مما عملته أيديهم، ورغم الفقر إلا أنه كان طموحاً لامعاً، دائم الثورة من الداخل، فتربى على كتابات وأفكار كبار الكتاب — أغلبهم من الروس- في الاشتراكية، وقرأ عن الثورة، ولكن جذوتها لم تشتعل في قلبه إلا بعد انفصال #مصر عن سوريا، وتفكك الجمهورية العربية المتحدة.
معمر القذافي بعد ثورة الفاتح، التي قادها القذافي، شغل منصب رئيس مجلس قيادة الثورة في الجمهورية العربية الليبية، منذ عام 1969 إلى 1977، بعدها صار "الأخ قائد الجماهيرية العربية الليبية الاشتراكية، وهو المنصب الذي استمر فيه منذ 1977 حتى مقتله في 20 أكتوبر/ تشرين الأول من عام 2011. كان القذافي قومياً، يميل إلى توحيد أبعاده العربية والإسلامية والأفريقية، وقد وجد في توجهه نحو أفريقيا هذه الأبعاد الثلاثة، لأن القارة السمراء توحد بعض دولها هذه الأمور الثلاثة، ورغم نفور كثير من الدول — خصوصا العربية — من فكرته، إلا أنه سعى في اكتمالها، وفي عام 2008 عقد اجتماع لزعماء أفريقيا ومنحوه لقب "ملك ملوك أفريقيا". وحسب المحلل السياسي المقرب من أسرة الزعيم الراحل ونظامه عبد الباسط بن هامل، فإن سعي معمر القذافي إلى تشكيل جيش إفريقي واحد، وعملة إفريقية موحدة، وكيان قوي ينطلق من قلب القارة السوداء، هو ما جعل الغرب يدرك خطورة الرجل، ويضع على وجه السرعة مخططاً محكماً للإطاحة به وقتله، فالمستهدف مما أسموه "ثورة ربيع عربي" كان رأس القذافي ونظامه.
ويرى بن هامل، أن القذافي — الذي اعتبره قادة وزعماء القارة الإفريقية مدافعاً رئيسياً عن فكرة الولايات المتحدة الإفريقية، والذي شغل منصب رئيس الاتحاد الإفريقي في الفترة من 2 فبراير/ شباط 2009 إلى 31 يناير/ كانون الثاني 2010، كان مثالاً واضحاً لصفات القائد والزعيم — وليس الرئيس- كما أنه كان أكثر من يفهم طبيعة ليبيا، التي يعجز قادتها الآن عن السيطرة عليها.
استبدل القذافي الدستور الليبي، المعمول به منذ عام 1951، بقوانين، استنادا إلى عقيدة سياسية سميت بـ"النظرية العالمية الثالثة"، ونشرت في الكتاب الأخضر، وبعد تأسيس الجماهيرية في عام 1977، استقال رسمياً من منصبه. وبعد ذلك كان له دور رمزي إلى حد كبير في اللجنة الشعبية العامة، ولكن ما حافظ على زعامته للدولة، كان التقدم المادي الذي تحرزه ليبيا كل يوم، فارتفاع أسعار النفط، وتمكن ليبيا من استخراج كميات ضخمة، تسببت في زيادة إيرادات الدولة، فارتفع معدل نصيب الفرد من الدخل القومي، بجانب عمله على إنشاء الرعاية الاجتماعية، التي جعلت ليبيا الأفضل في إفريقيا، ولم تكن مدينة داخلياً أو خارجياً. في حوار مع أحد الأصدقاء، وهو من أقارب الزعيم الراحل، قال لي إن القذافي نفسه كان يعتبر نفسه شهيداً وحيا بشكل مؤقت، ومنذ اللحظة التي امتلكت فيها ليبيا أسلحة كيماوية، في نهاية ثمانينيات القرن الماضي، أدرك أن تحركات الغرب — وتحديداً الولايات المتحدة الأمريكية — ضده لن تهدأ، وقد تسعى أمريكا إلى إعلان حرب غير مباشرة عليه، لسحق نظامه الذي حافظ على اتزانه، على الرغم من الأزمات المالية الكبرى التي ضربت العالم أكثر من مرة في الأعوام الأخيرة.
وعن توجه القذافي القومي، يقول قريبه، "بعد ثورة الفاتح، كان قرار القذافي الأول هو إجلاء القواعد العسكرية الأمريكية والبريطانية من ليبيا، وبعد أقل من سنة كانت القواعد والمطارات الليبية مفتوحة أمام الطائرات الحربية المصرية، كمطارات بديلة، كي لا تطولها الطائرات الإسرائيلية، التي كانت تحاول دك المطارات المصرية بعد حرب 1967.
كما وضع الزعيم الراحل إمكانيات بلاده المادية والبشرية تحت تصرف #مصر، حيث اشترت ليبيا — قبل انطلاق حرب أكتوبر 1973، أسطولا من طائرات الميراج الفرنسية، ومئات الزوارق المقاتلة البحرية، والسيارات المصفحة، وقدمتها للجيش المصري. ويذكر المصريون للعقيد واقعة هامة وطريفة في الوقت نفسه، فبعد ثورة الفاتح بأشهر قليلة، أرسل القذافي مبعوثاً إلى الزعيم جمال عبد الناصر، أيقظه من نومه بعد منتصف الليل، قائلاً إن الأمر عاجل جدا ولا يحتمل التأجيل، فالتقى عبد الناصر المبعوث الليبي عند الفجر، وكانت المفاجأة أن القذافي أرسل أموالاً طائلة، طالباً من الرئيس عبد الناصر شراء قنبلة نووية، لإجبار إسرائيل على الانسحاب من الأراضي العربية، وهو ما رد عليه "ناصر" قائلا: يجب أن يكون لدينا مفاعل نووي أولا…وإلا فأين سنضعها، وعندما تحدث مع القذافي هاتفياً، طلب منه الزعيم أن يستغل هذه الأموال في إنشاء المفاعل النووي. والواقعة تؤكد أن القذافي لم يكن يتوانى عن الوقوف بجانب أبناء عروبته، فدائماً ما كان يحرص على التواجد بجانب الأشقاء في محنهم، فقد كان حريصاً على تسليح المقاومة الفلسطينية بكل فصائلها، وحين تم اجتياح بيروت، أرسل عديدا من المقاتلين العرب والأجانب للقتال في لبنان، وبالطبع على رأسهم وحدة من الشباب الليبي الشجعان. لقد أدركت أمريكا أن "ثورية" القذافي ستكون عقبة في طريقها، وقد كانت كذلك بالفعل لأكثر من 40 عاما، لذلك عندما تم اختراق البريد الإلكتروني لوزيرة الخارجية الأمريكية والمرشحة لرئاسة أمريكا حاليا هيلاري كلينتون، كانت أبرز الرسائل هي "لقد حان الوقت للقضاء على القذافي…بأي طريقة وفي أسرع وقت"… ربما حققت أمريكا ما أرادت وأنهت حياة وحكم العقيد…ولكنه حقق ما تمناه دائما، ومات واقفاً.
بقلم/ أحمد بدر