
ما من جديد، سوى أن قمة «الخيمة» تحولت ـ كما كان متوقعا ـ إلى قمة الخيبة.
لم تقصر موريتانيا بلد المليون شاعر في شيء، واستضافت القمة الحائرة الخائرة بعد اعتذار وجيه من المغرب، ونصبت خيمة بدوية فخمة لاجتماع الرؤساء والملوك والأمراء العرب، ووضعت لها شعار «قمة الأمل» كتميمة حظ بلاغية، لكن الخيام المكيفة لا تخفي قسوة الصحراء من حولها، وبلاغة الكلمات والأمنيات بدت كنوع من واجب الضيافة، فقد جرت الأمور على نحو ما كان منتظرا، حضر من حضر متثاقلا، وغاب من غاب متواريا، وبدت الكلمات مكررة محفوظة كتقاليد العزاء في الجنازات الباردة، وفضوا السيرة سريعا، وعلى عجل، وأصدروا بيانهم الختامي نفسه، الذي أصدروه مرارا من قبل، وإن وضعته وسائل الإعلام العربية هذه المرة كما يستحق في ذيل اهتماماتها وتغطياتها.
ولا نريد أن ندخل في سجال التقييم العقيم المعتاد عقب كل قمة عربية، وعلى مدى الأربعين سنة الأخيرة على الأقل، فلا الحكام أو المتحكمون العرب يحفلون بها، ولا الشارع يبتاع منها سوى خيبة الأمل «راكبة الجمل»، ولا أحد يكاد يتذكر وجودا محسوسا لشيء اسمه الجامعة العربية، بلغت السبعين من عمرها، وشاخت قبل الأوان بأوان، وصارت كالزائدة الدودية، أو كقبر من رخام، أو كعنوان بريد، يتذكر به العرب أيام أن كانوا عربا.
ولا نريد أن نذرف دموع التماسيح ولا دموع العذارى على ما كان، وعلى آلاف القرارات والاتفاقيات والوثائق المحكمة، التي لم تذر من شيء، إلا وناقشته وقررت فيه بخبرة وحماس، ومن اتفاقات الدفاع إلى اتفاقات الاقتصاد، ثم رقدت الأوراق كلها بسلام في الأدراج، وبدون أن تجد من ينفذها، ولا حتى من يجرفها إلى سلال القمامة.
صحيح أن القمم العربية اجتماع حكومات لا محفل شعوب، وأن الجامعة العربية منظمة دول لا لقاء جماهير، وليس ذلك عيبا في ذاته، فكل المنظمات الإقليمية كذلك، والجامعة العربية أقدم نظام إقليمى في العالم، وعمرها من عمر الأمم المتحدة ذاتها، لكن الجامعة العربية صارت أفشل المنظمات الإقليمية بامتياز، وربما لا ينافسها في الفشل سوى منظمة التعاون الإسلامي التي تضم الدول العربية مع غيرها، رغم أن تغيرات طرأت على بنية الحكم في دول عربية وإسلامية، وتكونت بعض نظم ديمقراطية أو شبه ديمقراطية، ونهض بعضها اقتصاديا، ولو على طريقة الفوائض الريعية، لكن ذلك لم يعن شيئا كثيرا ولا قليلا في محنة القمم العربية عبر أربعين سنة إلى اليوم، زالت فيها بالتدريج فكرة وجود إرادة عربية، ففاقد الشيء لا يعطيه، وقد وقعت غالبية النظم العربية أسيرة لتبعية مفرطة، وجرى تعميم التبعية لأمريكا بالذات في العقود الأربعة الأخيرة، بل أن دولا عربية ذهبت لشراء الاحتلال بالمال، وعلى طريقة ما جرى في سيرة الاحتلال الأمريكي للعراق، ثم في تدمير ليبيا وسوريا من بعد، وكان طبيعيا أن تستريح إسرائيل لهدايا تحطيم العرب بأموال العرب، ثم زهدت أمريكا نفسها في إلحاف وإلحاح التابعين العرب، فهي تستطيع تحصيل المعلوم بغير مجهود، وبدون أن تفقد جنودا، ولا أن تشغل بالها بمآسي العرب التي لا تنتهي، وهو ما يفسر الانهيار المتدرج الذي آلت إليه قمم الأربعين سنة، فقد كان الوحي الأمريكى حاضرا على طاولات الاجتماعات فيما مضى، ثم انقطع الوحى بإذن صاحبه، ولم تعد من إرادة أمريكية مستعارة، لمن فقدوا الإرادة الذاتية طوعا وكرها، وصارت اجتماعات القمم عبئا ثقيلا عليهم، فاجتماع قمة يعني ـ بالبداهة ـ وجود خلافات أو اتفاقات، ويعني نقاشا مفتوحا للوصول إلى إرادة مشتركة، وأي إرادة مشتركة هي «إرادة ناقصة» بطبيعتها، فلا يمكن لطرف فرض إرادته بالكامل، وإذا غابت الإرادات الكاملة أو الناقصة من أصله، فلا مفر من «أكل الهوا»، والوقوع في الخيبة الصفرية.
والذي أقام الجامعة العربية، وبصرف النظر عن دور المصالح البريطانية الاستعمارية وقتها، كان سعيا هائما للبحث عن إرادة مشتركة، ولم يكن تصميما عقلانيا لإطار اقتصادي واجتماعي ودفاعي كالاتحاد الأوروبي اللاحق مثلا، ولم تكن مصادفة أن يتواقت إنشاء الجامعة مع اكتمال التجمع الإسرائيلي الغازي «الييشوف» في فلسطين.
كان الإحساس بالخطر هو دافع البحث عن إرادة لمواجهته، وكان ما كان في نكبة 1948، التي هزم فيها العرب معا، وخلقت الهزيمة طوفانا من التمرد في الشارع العربي، وتشكلت ظاهرة المد القومي العربي في الخمسينيات والستينيات وصولا إلى أواسط السبعينيات، كانت الأحلام القومية تزدري البنية الهزيلة للجامعة العربية، وكانت الأنظمة منقسمة بين نظم تقدمية وأخرى رجعية بتعبيرات الزمان الثوري، لكن الروح القومية العامة منحت الجامعة زادا من حياة، وتأسس تقليد القمم العربية على وقع الخطر الإسرائيلي بالأساس، خصوصا مع القمة التي دعت إليها مصر عبد الناصر لبحث سبل التصدي لمساعي إسرائيل تحويل مجرى نهر الأردن، ووصلت الجامعة إلى سنوات ازدهارها اليتيمة في الفترة من هزيمة 1967 إلى حرب 1973، فلم تكن القصة في اختلافات النظم، ولا في حروبها الباردة والساخنة التي كانت ضارية، ولا حتى في غياب الديمقراطية الذي كان معمما، فكل ذلك كان موجودا وبإفراط، وبما يدفع إلى فرقة واختلاف وتمزق، لكن الروح العامة في الشارع كانت تغلب مزاج القصور، وتجعل الإحساس بالخطر موحدا في غالب الأحوال، فلم يكن من صوت يعلو على صوت المعركة مع كيان الاغتصاب الإسرائيلي، وكان الإجماع الغالب على طبيعة الخطر، هو ما خلق صورا عملية مباشرة ومؤثرة لمعنى الإرادة المشتركة، وجرى تقسيم أغلب الدول العربية، بين كيانات مواجهة بالسلاح وكيانات دعم بالمال، وكسبت القمم العربية مهابتها التي لم تتكرر، وكانت النتيجة نصرا عزيزا للأمة العربية كلها، تحقق في ميادين القتال، كما في ميادين الثروة، فقد لعب قرار وقف تدفق البترول لأوروبا وأمريكا دوره في الانتصار السياسي الداعم للمقاتلين بالسلاح، وعند نهاية وقت وقف التصدير، زادت أسعار البترول بصورة طفرية هائلة، ضاعفت من عوائد دول الدعم، وخلقت طوفانا من الثروات المستجدة، كانت كفيلة بتوليد ثورة تصنيع عربية شاملة، لولا أن جرى العصف بكل ما كان، وخانت السياسة نصر السلاح، ووقع الخرق أولا في مصر التي كانت وتد الخيمة العربية، ووقعت الأمة كلها ضحية لخديعة كبرى حملت زورا اسم «السلام»، أسقطت كل المحرمات والمقدسات من حسابها، وعادت بالعرب إلى عصور التيه، وبالجامعة إلى وقت الفراغ العدمي، وبالقمم إلى زمان الخيبة المتصلة.
والدرس ظاهر في معناه ومغزاه، فالاجتماع على وحدة الخطر، هو الذي يؤسس ويبني، ويفتح المسالك لإرادة مشتركة، وفى غيبة الإجماع على أولويات الخطر، فلا يصح الحديث عن إرادة مشتركة، ولا عن فائدة ترتجى من قمم النظم، فما بالك بنظم تفرق عندها الإحساس بالخطر، أحل بعضها إيران محل إسرائيل، مع أن الخطر الإيراني من طينة مختلفة، فقد بدأت القوة الإيرانية المعاصرة صعودها مع ثورة الخميني 1979، وهو العام نفسه الذي عقدت فيه ما تسمى معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية، ثم تمددت القوة الإيرانية في الفراغ المخيف الذي خلفه انهيار المشروع القومي، وساعدتها جهالات عربية من نوع إذكاء حروب السنة والشيعة، وتفتيت نسيج الأمة بزج الإسلام في عداوة مفتعلة مع القومية والعروبة، وتفاقم الخطر الإيراني بالذات عندما سكت العرب عن مواجهة إسرائيل، بل أن بعضهم صار يحالفها سرا فجهرا بلا خجل، وكأن إسرائيل صارت زعيمة للسنة العرب في مواجهة إيران وشيعتها العرب، فلا تكون النتيجة سوى فسح المجال للمزيد من التمدد الإيراني، وإطلاق يد إسرائيل في سحق عظام الشعب الفلسطيني بعد ابتلاع أرضه وتهويد مقدساته.
عبد الحليم قنديل
٭ كاتب مصري
