
تتحرك الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، بمرونة تكتيكية عالية وغير مسبوقة، بما يطرح مجددا، طبيعة السياسة الأمريكية أو القواعد والمبادىء التي تعمل على أساسها الولايات المتحدة في المنطقة العربية في المرحلة الراهنة، بعد أن دارت السياسة الأمريكية في المنطقة دورة كاملة، وبات ممكنا اكتشاف قواعدها واسسها، التي ظلت غامضة طوال مرحلة التحولات التي جرت في المرحلة الأخيرة.
ويمكن القول بأن الإدارة الأمريكية، قد رفعت مستوى حركتها بالمنطقة إلى المستوى الاستراتيجي - وهو مستوى غامض بطبيعته وهي زادته غموضا بقصد التغطية على التغييرات الجارية في سياستها- وهو ما ارتبط بالتحرر من انحيازاتها العامة السابقة أو التاريخية، كما هو الحال مع دول الخليج - فأصبحت كمن يتحرك من "أول السطر" وكأنه بلا تاريخ. وبذلك وضعت نفسها في موضع من يدير كل الأطراف المتعادية - وكأنه بلا أهداف معادية للجميع - إذ منحها هذا التحول الاستراتيجي حالة من القدرة التكتيكية المفتوحة بلا حدود للحركة، عبر مجموعات من حزم الضغوط والغموض والترغيب والترهيب والتهديد بدعم الآخرين أو عبر صفقات السلاح تقديما وتأخيرا ومنعا، ومن خلال السطوة على الإعلام بمختلف أشكاله وصنوفه – بما في ذلك إعلام تسريب الوثائق والمستندات والمحادثات – وعبر السطوة على القرارات الأممية. دون أن يغيب عن الأذهان ما يفرضه امتلاك الولايات المتحدة لطائرات القتل الآلي التي هي إحدى أدوات الفعل الأمريكي تجاه بعض المجموعات على الأقل.
ويمكن القول إن وضوح السياسة العربية للولايات المتحدة الآن، بات أكثر مما مضى، بفعل ما حققته من تغيير استراتيجي في أوضاع المنطقة إذ نقلت المنطقة العربية من وحدة المكون والنظام إلى مجرد كيان مفكك داخليا تتقاذفه الأمواج داخل منطقة الشرق الأوسط، حيث تتصارع قوى إقليمية قوية ومتماسكة – إيران وتركيا وإسرائيل - وبعد أن تمكنت من إدخال كل الأطراف الفاعلة في هذا الشرق الأوسط إلى وضعية الصراع الشامل على النفوذ والسيطرة وفي بعض الأحيان في وضعية المعارك الثأرية مع بعضها البعض، فصار الجميع في حالة الاشتباك المتعدد الأطراف، فيما صارت هي تتحرك بأريحية تكتيكية تامة، إذ لا يستطيع أي من الأطراف الاشتباك الاستراتيجي معها، خاصة بعدما نزلت روسيا بقواتها على الأرض، كما أن حركتها التكتيكية المفتوحة قد منحتها القدرة – بدورها - على منع أي من الأطراف من اتهامها بالانحياز الكلى ضده.
ووفقا لتلك المعادلات الاستراتيجية الجديدة والتكتيكات المفتوحة بلا حدود أو عوائق، باتت الولايات المتحدة قادرة على توظيف أقل الطاقات والقدرات، لإنجاز أهم وأكبر الأهداف. لقد طورت الولايات المتحدة سياستها العربية بما يتناسب مع حالة الفوضى والاضطراب والاشتباك الشامل في الإقليم، التي أحدثتها هي، بعد نجاحها في تحرير القوة الإيرانية – بإخراج العراق من معادلات القوة - ودفعه للتدخل العسكري والطائفي العقائدي والسياسي، وبعدما أقامت نمطا ناعما ودقيقا من العلاقات مع الميليشيات الإيرانية، إذ صار توظفها لتحقيق سياستها، وهى حالة عامه توسعت من بعد إلى درجة تشكيل وقيادة ميليشيات عديدة، كما هو الحال للميليشيات الكردية في شمال سوريا وغيرها.
وهكذا يمكن القول إن السياسة العربية للولايات المتحدة تقوم على إذابة العالم العربي وعلى دفع الأطراف العربية والإقليمية إلى وضعية الصراع الشامل مع رعاية الولايات المتحدة للمجموعات الفاعلة في الصراعات للعمل تحت إدارتها وإشرافها، لتحقق هي حالة السيطرة الشاملة على أوسع درجات الفوضى اضطرابا.
طلعت رميح