كانت لدي معرفة نسبية بثقافة أهل السنغال قبل أن أزور بلدهم، حيث شاهدت أفلام سينما رائعة صنعها سنغاليون، مثل عثمان صامبان الذي يعتبر أبا السينما الأفريقية، وقرأت روايات جميلة جداً منها كتبتها نساء، كماري ندياي التي حازت جائزة غونكور للرواية في فرنسا عام 2009 عن روايتها "ثلاث نساء قويات"، هذا عدا عن الشاعر الكبير ليوبولد سنغور.
أقول ذلك، لأعترف بأن الثقافة استدرجتني إلى هذا البلد، ولكني حين نويت السفر إلى هناك، كدت أن أتراجع عن الأمر، نظراً لما واجهني من منغّصات، بدأت بوصفات التطعيم الكثيرة والمكلفة ضد الأمراض والأوبئة المعدية، ومنها الملاريا والكبد الوبائي والحمى الصفراء..إلخ، وحين لم أجد مفرّاً، وبسبب ضيق الوقت، أجريت خمسة تطعيمات في يوم واحد بقيت بعدها أسبوعاً، وأنا أعاني من إرهاق واضطرابات. وعندما أخذت في التكيف مع مفاعيلها، هبطت علي جملة من النصائح حول كيفية التصرّف في هذا البلد الذي وصفه لي أحدهم بأنه المركز العالمي لعصابات سرقة شفرات البطاقات المصرفية، وزاد آخرون بأن البلد عامر باللصوص والشحاذين والجريمة المنظمة عبر الإنترنت، وليس هناك ما يستدعي السفر إلا في حالات الضرورة القصوى.
ذهبت إلى داكار، وفي ظني أنى سأجد أمامي جائحة مرضية وعصابات في استقبالي على أرض المطار. ولذا، بقيت حذرا جدا في الـ 24 ساعة الأولى، على الرغم من أني لم ألحظ حتى ذبابة أو علامات أمراض، ولم أصادف أحداً من قطاع الطرق، بل شعبا يتسم باللطف وحسن الاستقبال. وأمام هذه الاكتشافات التي جاءت من تلقاء نفسها، بدأت أتشجع وأسأل بعض نزلاء الفندق القادمين من أنحاء مختلفة، فرنسا، المغرب، موريتانيا عن الاحتياطات الطبية التي اتخذوها قبل القدوم إلى السنغال، فكانت غالبية ردودهم تتسم بالسخرية من الإجراءات المفروضة في الغرب على المسافرين إلى بعض بلدان أفريقيا، ولم أعثر على أحد اتبع النظام الذي سرت عليه، بمن في ذلك طاقم الطائرة الإسبانية الذي يقوم بأربع رحلات أسبوعية إلى داكار.
أصابني هذا الاكتشاف بالصدمة، وتبين لي أن الأمر لا يخلو من صورةٍ نمطيةٍ طبعاً، ولكن تثبيت هذه الصورة هو الأخطر، لأنه يعني الإبقاء على هذه البلاد أسيرة الإرادة الأجنبية. وهذا ما يلحظه المرء في سلوكيات بعض الديبلوماسيين الفرنسيين الذين لا يزالون يتعاملون مع أهل البلاد وفق عقلية المستعمر القديم، وتبدر عن بعضهم تصرفات رعناء ذات خلفية استعمارية، ظانين أن وجودهم في هذا البلد هو الذي يطرد عنه البعوض الذي يسبب الملاريا، ويحول دون انهياره ويحميه من الأعداء. ولا يختلف اثنان على أن ميراث العقلية الكولونيالية هو الذي لا يزال ينتج الصورة النمطية الخاصة بأفريقيا ككل، وعلى الرغم من أن بلدان القارة نالت استقلالها منذ زمن طويل، وحققت نهضة ثقافية وتعليمية، وسارت بعضها خطواتٍ هامة على صعيد بناء نظم ديمقراطية، لم يصل الغرب إلى لحظة الاعتراف التام بالإفريقي، خوفاً من أن تحين اللحظة التي يتوجب فيها على الغرب تحمل المسؤولية عن تخريب هذه القارة، واستمرار السيطرة عليها بأساليب جديدة من أجل نهب ثرواتها، وحتى الأمراض القاتلة ما كان لها أن تستشري، لو لم يحصل تواطؤٌ تتحكم به مصالح شركات الأدوية المملوكة لكبار الصناعيين، والتي ترفض، حتى الآن، أن تتنازل عن مقابل براءات الاختراع، لمساعدة أفريقيا في تصنيع أدوية بأسعار رخيصة لمواجهة الأوبئة. وينسحب هذا الأمر على الأضرار التي لحقت بالبيئة والتلوث الذي أصابها بفعل العبث والاستغلال العشوائي لموارد القارة.
تستحق أفريقيا نمطاً مختلفاً من التعاطي الغربي معها، فهي ليست مزارع لإنتاج البعوض والأمراض، بل فضاء رحب، مسلح بكل ما تحمله الفطرة من نبالة.
بشير البكر
العربي الجديد