ما هو مستقبل الحكّام والدول والأفراد عندما يتوقّف الدوران؟

7 مارس, 2016 - 15:37

أعترف، وأنا أكتب من لبنان ، ومن دون خجل أو تقريظ ، ، تسدّ دروبي هنا ألقاب السعادة والفخامة ودولة الرئيس والنيافة والغبطة والزعامة والسماحة حيث كلّ مدير عام أو سفير أو نائب أو محافظ حالي وسابق هو صاحب سعادة. أصحاب السعادة لا يمكن حصرهم أو تعدادهم في لبنان قاعدون فوق الحبر والوطن وظهور الناس كما الجبال وفي بطون السلاطين وأمام أبوابهم وصار اللبنانيون أتعس أهل الأرض تأكلهم القمامة لا يفهمون السعادة سوى في الأفلام.

في المقابل، يمكن للمعجبين والمستغربين وال…(إملأوا الفراغ بالكلمات المناسبة) أن يكتبواكما إرتفاعات الأبراج في دبي بعد التغيير الحكومي الذي أعلنه الشيخ محمّد بن راشد آل مكتوم من تعيين وزراء للسعادة والتسامح والمستقبل. لكلٍّ مبرّراته ونوازعه التي لا يحوقها تعليق أو تحليل وهي فائضة بحقول الحبر والرأيلتتجاوز بحجمها إبراج العالم .

وللشيخمحمّد بن راشد أن يستغرب الإستغرابكونه أوّلاً لا يترك للعيون والحبر فسحات يتنفّس العالم عبرها الصعداء خلف مبادراته ، وكون كمن يقبض على العصر في إمارته المقيمة فيقارة آسيا المجروحة تاريخياً والملتهبة اليوم وكونه ثالثاً يطرح السعادة طريقاً يصل الحياة المنزلية بالحياة الوظيفية كما بالحياة الإجتماعية وهذا منه جراقٍ هو في قلب علوم العلاقات العامّة التي تسخّر الأفكار والأبجديات والإنسانيات والحكومات والمنظّمات بهدف تطوّر الحضارة وإزالة شوائبها.

بعدما تخرّجت الشابة اللبنانية تريسي صوان من أرقى المعاهد البريطانية الى دبي لتعمل هناك، هاتفت أباها قائلة بالإنكليزية: I found my paradise أي وجدت جنّتي.

في البحث عن تحقيق السعادة، ذهب الشيخ محمّد بن راشد آل مكتوم نحو أرسطو وابن خلدون ومقدمة الدستور الأميركي والأمم المتحدة حيث المعايير في البحث عن نجاح الحكومات. وأخذتني مبادرته في التغيير الحكومي الى معبد دلفي في أثينا حيث: “أعرف نفسك تعرف العالم” أو مقولة الحكم التاريخية المنقوشة فوق جبين الإغريق.

حاكم دبي مغرم بالمستقبل وهو مسكون لا بل مشغول ودائم الإشتغال بالقبض على الزمان في تجليّاته. وأتوسّع هنا في فهم عظمة ما يفعله حاكم دبي بالإشارة الى الفكر اليوناني الذيتوقّف في معالجته الواسعة لمعضلة الزمان فلسفياً باعتباره نبع الحركة الدائمة لتتناول مسيرته دبي فتتابع الطريق. انبثقت من هذه المعالجة صورة السهم رمزاً حاداً يشير علمياً إلى المستقبل. وتركزت في عقارب الساعات الوحيدة التي تملأ معاصم البشر وجدرانهم وهواتفهم الخلوية وعرباتهم تصاحب حركة الزمن ودورته وايقاعاته الاصطلاحية.  بهذا المعنى، ذهب أرسطو إلى القول بأن وحدة قياس الزمن لا تضبط إلاّ في إطار ال “قبل” وال”بعد” وهي تفترض السهم أي فكرة الموجّه Vector أو Vecteur بالفرنسية والمحدد برأس السهم الذي يشير طولُه إلى الزمن المنقضي.

يستدعي الكلام على الزمن المنقضي، سموّ الشيخ، العودة إلى الساعة الرملية التي كانت هي الشكل الأول للزمان في مغامرة آلية لم يكن معها سهلاً ضبط حركيّة هذا الزمان. وإذ تنقر على رأس الفأرة اليوم في ضبط للسهم المنزلق فإنّك كمن يمسك الماء في البداية جاهداً التحكّم بخميرة التغيير.لم تكن تلك المغامرة سهلة في مصالحة الأجيال على الرغم من أن ظاهرها بدا سهلاً، لكنّها بارعة النتائج في تطوير الدول وإستقرارها وسعادتها ورخائها.

وإذ “يُثمر” النقر، تظهر إلى جانب السهم ساعة رملية تعرف ب” بكرة المعرفة” التي لا يمكن أن يوثقها أو يؤخّرها عائق أو قانون في تنقل الرمل من زاوية إلى أخرى ومن حالةٍ الى أخرى تحقيقاً للتغيير إلا بمرور الزمان. تحققها التقنيات والأفكار والطموحات التي تشهدها اليوم دبي. وتكرّ من الساعة الرملية وفق سرعات متنوعة مختلفة، محقّقة سلطات المعاصرة الفتيّة الشبابية وأجيالاً متباعدة متصلة تصنع العدالة والمساواة والإنتاج والسعادة .

لكن لا ننسى أنّ البكرة في اللغة العربيّة  جمعها بكر وبكرات وبكَّر بكوراً أي تقدّم وأسرع، وهي في أساسها آلة مستديرة في وسطها مَحَزٌّ يمرّ عليه حبل لرفع الأثقال وحطّها مهما كانت هذه الأثقال عظيمة. ولمن لم ولن يدرك معاني الشباب والسعادة والتسامح وتطويع الزمان فلا يستغرق ويقرأ في مبادرات دبي نعيده الى القول: “والبكرات شرهن الصائمة” أي التي لا تدور، فما هو مستقبل الحكّام والدول والأفراد عندما تتوقّف عن الدوران؟

يمكن بذلك وضع خطوط عريضة، وفقاً للمنهج التفكيكي، تحت مجموعة من الكلمات والمصطلحات المفاتيح التي وردت في نص سموّ الشيخ محمّد بن راشد: التغيير، الشباب، التسامح، السعادة، القيم، البرامج، المبادرات، الكراهية والتعصّب التي قد تؤلّف قاموساً يشغلنا لعقود منكبّين على صناعة المستقبل،ومعالجة بؤس الحضارة والنكبات والكوارثالتي وقعت أو إقتيدت إليهابلادنا في منطقة الشرق الأوسط خلال السنوات الخمس الماضية. وإذا كانت دبي قد تفكّرت ودرست وفاجأت وتجرّأت فإنّها قد قفزت من وعي المصطلحات والأزمات وطحنها الى تحقيق خطوات عملية بدأت بتحقيقها عبر إطلاق بيئة متغيرات عمليّة تدخل الشباب في صناعة المستقبل وصناعة السعادة لا لدبي وحدها بل كأنموذج لغيرها من الدول. هذه مبادرة تحفّزنا جميعاً وكلّ من موقعه بالإعتراف بأنّ الدول والحكام ليست أيّاماً نداولها بين الناس بقدر ما هي دوران دائم لا ينقطع بهدف صداقة الزمانوالتغيير الدائم والكشف عن عالمٍ أفضل هو بحاجةٍ دائمة الى الكشف.

أعترف ثالثاً، وأمامي نصف قرنٍ من التعليم الجامعي والأبحاث ومئات المحاضرات والمقالات وخمسةٍ وعشرين مؤلفاً، أنّني ختمت أطروحة الدكتوراه الثانية منذ سنوات بأن أسميت نفسي الطالب الأبدي. لذا أرفع قبّعتي الأكاديمية والعلمية لحاكم دبي عندما يخاطب الشابات والشباب متجاوزاً عصور الكنوز الإقتصادية الأرضية،فيرفع عملياً أبراج الفكروعماراته وقيم التنوّع والتعدّد والقبول بالآخر ثقافيا وطائفيا ودينيا في كتب :نحن دولة شابّة نتعلم كل يوم…تعلّمنا من أحداث المنطقة، ومن دروس التاريخ… بأننا نحتاج أن نتعلم التسامح ونعلّمه ونمارسه بنبذ الكراهية ورفض أشكال التمييز وتوفير فرص للشباب وبيئة يستطيعون من خلالها تحقيق أحلامهم وطموحاتهم… التسامح كما الحليب نرضعه لأطفالنا فكرا وقيما وتعليما وسلوكا… تعلّمناإستشراف المستقبل لأنّ وظيفة الحكومات خلق البيئة التي تحقّق سعادة الناس وتمكينهم لا التمكّن منهم.

أرشدوني الى الحاكم العربي الذي يجهر بالقول بأنّه الحاكم المتعلّم ؟

أرشدوني الى الحاكم العربي الحالم بحاجات الشباب وإشراكهم بالحكميشحنون الزمان بالتعلّم والإنتاج والفرح والمحبة والتواصل والتكامل والسعادةوالحضارة؟

ألا يركض المستقبل نحو الحاضر والماضي به يقتدي؟ أليس هناك من تبادل أدوار بين الآباء والأبناء والبنات؟

الشباب لا يحتملون التأجيل من حكّامهم، وهذه ظاهرة مرتبطة بما منحته لهم أجهزة التحكم عن بُعد من مشاعر وسلطات،وهم لا يحتملون الانتظار، لأنّهم آليّة يقظة ملحّة لديهم وقلق، تسيطر على الزمان والمكان والمضامين وتزيل كل الحواجز والحدود التي تضعها الدول والسلطات والقوانين القديمة التي تؤثر في بناء الشخصية فيعرضون أو ينتفضون على رموز السلطة الثابتة، ولو عوّضوا عنها وقتياً بسلطات التقنيات المعاصرة.

يفتح الغرب النوافذ أي الـ Windows بالانكليزية أبواباًللمعرفة دفعاً إلى الخروج من ظلمات الحياة الفردية والإنتحارات البطيئة التي تورثهاقساوة الحياة الصناعيةالتي جفّت رطوبتها بالنسبة للإنسان الغربي، ويفتح بعض الشرق العربي السجون والقبور والمغاور والكهوف الفكرية والمذهبية والدينية والعقول تجهد بحثاً عن التغيير في بلاد الغير. مفارقة هائلة تتنامى إن لم ندمغ مستقبلنا مع سمو الشيخ حاكم دبي بالمقولة أنّ:”منطقتنا ليست بحاجة لقوى عظمى خارجية لإيقاف انحدارها، بل لقوى عظمى داخلية تستطيع التغلب على موجة الكراهية والتعصب التي تضرب نواحي الحياة في الكثير من دول المنطقة”.

الدكتور نسيم الخوري: أستاذ مشرف في المعهد العالي للدكتوراه. سياسة وإعلام سياسي

[email protected]

راي اليوم