بين الاستعباد والاستعمار “لا أحد يريدنا ديمقراطيون"/ فوزي مهنا

14 يناير, 2016 - 13:42
فوزي مهنا

  لا يمكن لشعوبنا العربية أن تتخلص من قابليتها للاستعمار التي تحدث عنها المفكر الجزائري مالك بن نبي بمنتصف القرن الماضي دون أن تتخلص أولا من قابليتها للاستعباد، بشقيه الديني والسياسي، ونقطة على أول السطر.

   في رواية “الغثيان” لسارتر يعجز المؤرّخ أنطوان أوكنتان عن وصف المرحلة التي تمرّ فيها مدينته “بويفيل” (مدينة الوحل) فيصاب بغثيان دائم، أليس هذا هو حالنا مع ما آلت إليه أحوال مدننا العربية اليوم من دمشق إلى بغداد لصنعاء إلى طرابلس الغرب لبيروت، بلاد أصبحت مرميّة على قارعة الطرق، وجمهوريات باتت مرتهنة عند بيّاعي الدين ولصوص السياسة والعصابات الإرهابية وجيوش الميليشيات.

  ليست مصادفة أن يتم وأد الثورات العربية بقوة الحديد والنار، ليتحول الربيع العربي لخريف بامتياز، فلا أحد يريدنا ديمقراطيون لا الداخل المتمثل بأنظمة الاستبداد وكهنوت الدين، وجيوشهما المستعبدة، ولا الخارج الذي يتاجر بحقوق الإنسان ومصائر الشعوب المقهورة، من أجل ضمان استمرار تحقيق مصالحه على حساب دمائها وآلامها، كلاهما عمل ويعمل على كسر إرادة هذه الشعوب لإبقائها في دائرة التخلف والاستعباد، والعودة بها لأيام الاستعمار.

   إنه مخطط تلاقت فيه مصالح ما يخطط له الغرب من مشاريع هدّامة لهذه المنطقة مع مصالح الأنظمة التسلطية الهادفة لإجهاض روح الثورات العربية وضمان بقائها جاثمة على صدور هذه الشعوب، لقد صدّعت أمريكا ومعها الغرب رؤوسنا بالديمقراطية ومباديء حقوق الانسان! لنكتشف أنهم لا يرون في ديمقراطيتنا وتحررنا من ربقة الاستعباد سوى في قتلنا ودمار أوطاننا، وهو ما عبّر عنه صراحة “أندرو جافن” بدراسته بعنوان «البنية الإرهابية للقاعدة» بقوله أن علاقة أميركا وأوروبا بالعالم الإسلامي تقوم على فكرة فتح جروح التنوع الطائفي والعرقي في المنطقة ليقتل الناس بعضهم البعض.

   وهو ما كان قد توصل إليه منذ القرن الثالث عشر الملك الفرنسي “لويس التاسع″ قائد آخر الحملات الصليبية لبيت المقدس، في وثيقته المحفوظة بدار الوثائق القومية بباريس، بعد هزيمته وجيشه على أيدي الأيوبيين وأسره مع كبار قواده في دار ابن لقمان بمدينة المنصورة عام ١٢٤٨ بقوله: إنه لا يمكن الانتصار على المسلمين من خلال الحرب وإنما بإشاعة الفرقة بين قادتهم، وعدم تمكين البلاد العربية والإسلامية أن يقوم فيها حكم صالح، وإفساد أنظمة الحكم فيها بالرشوة والفساد والنساء، حتى تنفصل القاعدة عن القمة.

 إنهم يتبنون جهارا نوعا من العنصرية الديمقراطية، باعتبارهم أن الحريات والديمقراطية لم تخلق إلا لهم فقط، بحواره مع إحدى الصحف المصرية يلخص وزير العدل الأمريكي الأسبق “رمزي كلارك” طبيعة الديمقراطية الغربية بقوله: “نحن شعب الولايات المتحدة نعتنق الديمقراطية كإيمان، ولكن عندما يأتي الأمر لتعاملنا مع شعوب الدول الأخرى نلجأ لأساليب تتعلق بالسلطة والقوة”.

  لذلك أكثر ما يخيفهم هو أن تصحوا هذه الشعوب من كبوتها فتتحرر من ربقة الاستعباد، فتقضي على مصالحهم، بناء عليه لا بد من الحيلولة دون تحقيق ذلك بكل الوسائل، منها وجود حكومات تسلطية، يقول المستشرق الأمريكي “كانتول سميث” إذا أعطي المسلمون الحرية وعاشوا في ظل أنظمة ديمقراطية، فإن الإسلام سينتصر بهذه البلاد، ولذلك بالدكتاتوريات وحدها يمكن الحيلولة بين الشعوب الإسلامية ودينها.

 وحقيقة هذا الربط بين مصالح السلطات المستبدة وقوى الخارج المعادية لإرادة الشعوب، هو ما نبّه إليه مبكرا عام 1924 الوطني المرحوم الدكتور عبد الرحمن الشهبندر، مؤسس “حزب الشعب” أول حزب سياسي في سورية بعد إطلاق حرية تشكيل الأحزاب، بقوله: لقد حاولوا أن يذهبوا تعصبنا لوطننا أن يسلطوا علينا حكومات تذيبُ هويتنا بأفكار ومعارك لا طائل منها إلا إخافة الشعوب وإضعافها لكي يستمر استعمارهم لا بجيوشهم بل بحكام يسلطون على رقابنا، لذلك كان الشهبندر من الأشخاص القلائل الذين وعوا خطورة المأزق الطائفي الذي عمل عليه الاحتلال الفرنسي، لذا كان أول من نادى بالزعيم الوطني الدرزي سلطان الأطرش زعيما للثورة السورية، ليدفع لاحقا دمائه ثمنا لمبادئه.

 نخلص لحقيقة لا يمكن تجاهلها هي أن الاستعباد والاستعمار وجهان لعملة واحدة، فمثلما لا حرية من دون متحررين، ولا إصلاح دون إصلاحيين، كذلك لا ديمقراطية من دون ديمقراطيين، التي تكلم عنها غسان سلامة بتسعينيات القرن الماضي، والذي تناول بالتحليل أزمة الديمقراطية في البلدان العربية، توصل من خلالها، إلى أنه من المستحيل أن تتحقق الديمقراطية من دون أن تتحقق التربية عليها، وبالتالي لا يمكن للديموقراطية أن تترسّخ في الوجدان الجمعي للناس من خلال ترديد الشعارات، بل بإيمان راسخ بحقوق المواطنة من قبل جميع أفراد الشعب حاكمين ومحكومين.

  وللولوج لجوهر تلك الحقيقة نتساءل: من أين لنا بالديمقراطيين؟ وقد رزحت هذه الشعوب طويلا بين مطرقة التشدد الديني وسندان الاستبداد السياسي، شعوب نشأت طفولتها وترعرعت في كنف الخوف والرعب، كيف لها أن تتحرر من ربق الاستعمار وهي لم تتحرر من قيود الاستعباد؟ وبالتالي كيف لهذه الشعوب أن تواجه أعداء الخارج، وهي مغلولة اليدين والرجلين في الداخل؟.

 قرن من الزمان مرّ على العرب وهم لا يعرفون من الحرية والديمقراطية إلا الخطب والشعارات، لا يوجد دستور من دساتيرهم، إلا ونص على أهمية الحريات الشخصية، وتبني نهج الديمقراطية وضمان حقوق الإنسان، لا يوجد دستور إلا ونص على مبدأ فصل السلطات وأن الدولة دولة سيادة القانون! لكن عند التطبيق كانت كتب القومية أكثر أهمية من كتب القانون.

  قبل وصول الحاكم العربي لعرشه الأبدي، يكون كحمامة سلام، ديمقراطيا حتى النخاع، يذوب في حب الشعب وحب الوطن في آن، وعندما يتمكّن من كرسي الحكم، يصبح الحاكم بأمره، يقول قائد النهضة السودانية الفريق عمر البشير بإحدى خطاباته أنه متى تأكد من أن الشعب غير راض عنه فسيتنحى من نفسه، لا بل سيمّكن الشعب من رجمه بالحجارة في الشارع، إلا أن هذا الشعب ما أن خرج للشارع مطالبا بتنحيته حتى صرخ بوجهه مهددا: “لولا شعوري بالمسؤولية الوطنية لسمحت لمؤيدي بالخروج للشارع لردع تفلتاتكم ومسحكم بالأرض”.

  من جهته الأسد الأب عند تعينه أمينا عاما لحزب البعث بالقرار رقم (1) لعام ١٩٧١ ماذا خاطب الشعب السوري؟ خاطبه قال: “ليقل المواطنون رأيهم بحرية مطلقة، فسأنفذ إرادة الشعب” بعد ذلك ماذا كان مصير كل سوري ينبس ببنت شفة؟.

  بكتابه الأخضر يورد القذافي صاحب المنابر الحرة بعضا من هلوساته فيقول: إن الاستفتاء تدجيل على الديمقراطية، لأن الذين يقولون نعم والذين يقولون لا لم يعبروا حقيقة عن إرادتهم، بل ألجموا بحكم مفهوم الديمقراطية الحديثة، ولم يسمح لهم بالتفوّه إلا بكلمة واحدة وهي: إما (نعم) وإما (لا) إن ذلك أقسى وأقصى نظام دكتاتوري كبحي، إن الذي يقول (لا) يجب أن يعبر عن سبب ذلك، ولماذا لم يقل (نعم) والذي يقول (نعم) يجب أن يعلل هذه الموافقة، ولماذا لم يقل (لا) وماذا يريد كل واحد، وما سبب الموافقة أو الرفـض؟!

  قبل أشهر قليلة من رحيل القذافي استأجر عدد من أهل بنغازي أحد مطاعم المدينة لإقامة تكريم لأكثر أقلام ليبيا إشراقا “الصادق النيهوم” وفي الوقت المحدد للاحتفال دخل المطعم ضابط من كتائبه، وأعلن أنه سبق له أن حجز الصالة، ولن يسمح لأي كائن بالدخول سواه!.

   لا يمكن للأسس الديمقراطية والمدنية في أي مجتمع أن تترسّخ في وجدان الناس من خلال الكتب وترديد الشعارات، بل لا بد من توفر التزام جماعي واحترام متبادل، وإيمان راسخ بحقوق المواطنة من قبل جميع أفراد الشعب حاكمين ومحكومين، أكثر من ستة عشر عاما درسناها في المدارس، لم نقرأ خلالها مرة واحدة عبارة تتعلق بأهمية حقوق الإنسان، لم نقرأ عن أهمية ممارسة الحرية والديمقراطية الحقيقية، لقد تحدثوا إلينا كثيرا عن حلم الوحدة العربية عن الحرية، عن قياداتهم الخالدة، عن أهمية الأوطان لكنهم نسيوا، بل تجاهلوا أهمية وعظمة الإنسان!.

 ثم بعد ذلك يقولون لك أن هذه الشعوب لم ترق بعد لمصاف الحرية والديمقراطية! باستطلاع للرأي أنجزه المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في إثني عشر بلد عربي لعينة تمثيلية وصلت إلى 18311 شخصا، أظهر المؤشر للسنة الرابعة على التوالي، أنالشعوب العربية ديمقراطية أكثر حتى من نخبها، حيث أن (89%) منهم أعطوا تعريفات صحيحة وذات مضمون ليبرالي لكلمة الديمقراطية، بينما رأى (35%) أنها ضمانة للحرية السياسية، في حين رأى (26%) أنها تعني ضمان المساواة والعدل بين جميع المواطنين، بينما رأى (12%) أن الديمقراطية طريق لتحقيق الأمن والاستقرار والتنمية الاقتصادية، وبالسؤال عن رأيهم في النظام الديمقراطي عبّر (79%‏) منهم عن تأييدهم للنظام الديمقراطي، باعتباره النظام الأكثر ملائمة لحكم بلدانهم مقارنة بالأنظمة الأخرى، كما رفض المواطنون العرب المشاركون في هذا الاستطلاع، نظام الحكم التسلطي سواء أكان علمانيا أم دينيا على السواء.

رأي اليوم