علمتني التجارب ألا أثق في رجل دين يمارس السياسة، لأنه حتما ستأتي اللحظة التي يستغل فيها الدين للمصلحة السياسية، أو يزج الدين في السياسة خدمة لمن يتربح منهم ويواليهم، لأن المحرك الأول له لن يكون الدين، بل السياسة والمصلحة الشخصية الدنيوية، ولو أراد فعلاً الدين والتقرب إلى الله والآخرة، لما أدخل نفسه في السياسة، أليست السياسة لعبة قذرة؟، أليست السياسة مماطلة وكذبا واحتيالا وتحوير الحقائق من أجل المصلحة؟، أعتقد أن أخطر ما يمكن على أي شعب هو تقديس رجال الدين المنغمسين في السياسة من رؤوسهم إلى أخمص أقدامهم.
منذ اندلاع الثورة الإيرانية عام 1979 والتي تم استلابها من قبل رجال الدين المعممين، زاد الاحتقان الطائفي في العالم العربي كله، بسبب وجود دولة طائفية تضطهد الطوائف الأخرى، في حين كانت أغلب الدول قبل ذلك، بما فيها إيران نفسها تحفظ حقوق مكونات شعبها الخليط من كل المذاهب والأعراق، وصار الهدف الرئيسي لرجال الدين ممن هيمن على الثورة آنذاك إيجاد دولة شيعية خالصة، تُقارع الوجود السني في دول الشرق المتوسط المحيطة، وتحولت مطالب الحرية والكرامة والديموقراطية التي رفعها شباب الثورة في إيران إلى مطلب تشييع الثورة، فهل جاء ذلك التحول كفعل أم كردة فعل على واقع الامتداد السني؟ أو على وجود التطرف السني؟
وسواء كان هذا أو ذاك، فعلى بعض الأنظمة العربية أن تشكر رجال الدين ممن تسلموا السلطة بحد السيف في إيران، لأنهم بشكل غير مباشر ساهموا في أن تصبح الأنظمة الاستبدادية أكثر قوة وأكثر تشبثا بالسلطة، لأن الاستبداد السياسي والديني كلاهما حليف الفاشية.
على الرغم من أن أغلب الأنظمة العربية آنذاك كانت تتعامل مع شعبها على أساس المواطنة حتى في الظلم، بغض النظر عن المذهب، فالقمع كان يشمل الجميع.
كم نتمنى ألا توجد أي أحزاب أو جمعيات أو تنظيمات سياسية قائمة على طائفة واحدة فقط، حتى لو غلفت نشاطها بشكل خيري، فكل تجمع يُحتكر على طائفة معينة، سواء شاء أم أبى، وسواء سمى نفسه معارضة أم موالاة، هو في النهاية يخدم الطائفية. وكم نتمنى ألا نرى رجال الدين في مواقع سياسية، مثلاً أن يكونوا أعضاء في السلطة التنفيذية أو التشريعية في البرلمان أو الشورى، لأن هذا يعني استغلال الدين في السياسة.
الفاشية ترتكز على التعصب والعسكرة وعبادة الزعيم. والفاشية الدينية هي استغلال المذهب والدين لتحقيق المرتكزات الثلاثة للفاشية، والتجربة تقول إن التنظيمات الطائفية كلها متماثلة، فقد يعتقد المرء أن «الإخوان المسلمين» عكس «حزب الله»، لكن الحقيقة أنهما وجهان لعملة واحدة وكل منهما ولد من نقيضه، وكل الأحزاب الدينية لم تحرر فلسطين ولم تسعَ لذلك، وأغلبها يتاجر باسم القضية، بل إنها تقاتل من أجل أن تخلق دولة داخل الدولة، والأمثلة كثيرة: «حماس» في فلسطين، و«الإخوان المسلمين» في مصر، و«جبهة النصرة» في سورية، و«داعش» في العراق، و«حزب الله» في لبنان، فعلى الرغم من الفترة الطويلة منذ تأسيس أحزابهم، إلا أن فلسطين بقيت تحت الاحتلال، واستطاعوا خلق دولة تابعة لهم في أوطانهم تقارع الدولة الأم، لها مؤسساتها التعليمية والعسكرية والسياسية والاقتصادية.
التنظيم الطائفي لا يرى إلا طائفته فقط، ولا يرى أن حريته تنتهي متى تعدى على حرية الآخرين، بل العكس يرى إن من حقه أن يسلب الآخرين حريتهم من أجل ما يراه إنه الحق، والحق يتمثل في مذهبه لا غير، أما الآخرون فهم حتماً على باطل.
إن الفاشية تصنع الحروب الدينية، وهي الأكثر دموية، والماسونية العالمية تريد استنزاف خيراتنا، بتكرار ويلات الحروب الدينية الأوروبية على أوطاننا، وها نحن نذوق العذاب والويلات، وإذا لم نفِقْ من كبوتنا فسيُهلكنا الطوفان حتماً، فهل من مغيث؟
د. أنيسة فخرو