
إذا أمعنّا النّظر في الآيات الخمس التي تحدّثت عن غاية الصيام وأحكامه من سورة البقرة (183- 187)، فإنّ أول ما يسترعي انتباهنا أنّ الله –جلّت حكمته- بدأ بالحديث عن الغاية السامية للصيام وهي تحصيل التقوى، قبل أن يتحدّث عن أحكام الصيام، بل إنّه –جلّ وعلا- بعد كلّ حديث في الأحكام الفقهية، يعود ليذكّر بالمعاني الروحية للصيام، وكأنّه يعلّم عباده أن يهتمّوا بصيام القلب والرّوح قبل الاهتمام بصيام البطن والفرج، ويهتمّوا بحدود الله أكثر من اهتمامهم بحدود الصيام.
في الآية الأولى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)) (البقرة: 183)، وطّد الله –سبحانه- لفرض الصيام بإشارة غاية في الرّوعة، تذكّر كلّ مسلم أنّ هذه الشعيرة قديمة قدم البشرية، والغاية منها كانت دائما تحصيل التقوى باستشعار رقابة الله في كلّ حين وكلّ مكان؛ فالصائم الذي يحرص غاية الحرص على أن يمنع قطرة الماء الصغيرة من الوصول إلى حلقه في يوم الصيام، حتى ولو لم يكن أحد من المخلوقين مطّلها على دخولها إلى جوفه، لأنّه يعلم أنّ الله يرى تلك القطرة، هذا الصّائم الذي يتحرّى ويتحرّز كلّ هذا الاحتراز خوفا على صومه من الفساد، حريّ به أن يستشعر رقابة الله واطّلاعه في حياته كلّها، فيمتنع عمّا يفسد دينه وآخرته من ذنوب، حتّى لو لم يعلم بذنوبه أحد من خلق الله.
ثمّ في بداية الآية الثانية: في قوله –سبحانه-: ((أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ))، يهوّن على عباده مشقة الصيام فيذكرهم بأنّ محلّه أيام معدودات تمضي سريعا، تذهب مشقّة صيامها ويذهب الأجر والثواب، وفيها إشارة إلى أنّ طاعة الله –سبحانه- مهما صاحبها من مشقّة، فهي مشقّة مؤقّتة تزول سريعا، لتترك خلفها أثرا حسنا في قلب العبد وروحه ونفسه، وقد أحسن من قال: “إن مشقة الطاعة تذهب، ويبقى ثوابها، ولذة المعاصي تذهب، ويبقى عقابها”.. كما يتضمّن قول الله –تعالى-: “أياما معدودات” إشارة إلى حقيقة الحياة الدّنيا وأنّها أيام معدودات، لا يشعر العبد حتّى يكتمل تعدادها وينقضي العمر ويجد نفسه يتهيّأ للرحيل عن هذه الدّنيا.. وقد جعل الله شهر رمضان صورة مصغّرة للحياة الدّنيا، يأتي سريعا، وتتوالى أيامه في سرعة عجيبة، ليرحل سريعا، ولأنّ أيامه عزيزة فإنّ المسلمين جميعا يشعرون بسرعة انقضائها أكثر من أيام الأشهر الأخرى، وهكذا هو عمر العبد الذي ألزم نفسه تقوى الله، عمر عزيز عامر بالبركة رغم ما قد يكتنفه من مشقّة وابتلاء، يطوى بما فيه ليرد العبد موردا حسنا ويوفّى أجره بما لم يتوقع ولا كان يخطر له على بال.
ثمّ يقول الحقّ سبحانه: ((فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُون))، وكأنّ الله –عزّ وجلّ- في هذا الشطر الأخير من الآية يعلّم عباده أنّ الامتناع عن الطّعام والشّراب والشّهوة ليس هو الغاية الأهمّ لفرض الصيام، لذلك يسّر سبحانه أمره، فأباح الفطر للمريض والمسافر، بل وشرع في بداية الأمر لكلّ عبد أن يفطر ولو لم يكن به عذر ويكتفي بالفدية، ثمّ نسخت هذه الرخصة –الفطر لغير المعذور- بعد ذلك في الآية التي بعد هذه، ومع ذلك بقيت هذه الآية المنسوخة مثبتة في كتاب الله، لتذكّر كلّ عبد مؤمن بأنّ الامتناع عن المفطرات الظّاهرة ليس هو الأهمّ عند الله سبحانه.
في بداية الآية الثالثة، وقبل أن يثبت الله فرض صيام شهر رمضان، أشار –جلّ وعزّ- إلى أنّ هذا الشّهر ما فُضّل وعظّم وشرع فيه الصيام، إلاّ لأنّه اختصّ بنزول القرآن فيه: ((شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَان))، وكأنّ في هذا إشارة إلى أنّ رمضان ينبغي أن يكون شهرا للتصالح مع القرآن وتجديد العهد معه.. والتصالح معه لا يكون بمجرّد تلاوته أو شهود ختمه في صلاة التراويح، إنّما بتدبّره وصبغ الحياة بصبغته، بأن يعرض العبد المؤمن حاله وعمله وسعيه على كلّ آية يقرؤها فينظر نصيبه منها ونصيبها من حياته وواقعه، وهو يرجو أن يكون القرآن ربيع قلبه ونور صدره ودستور حياته، يتأثّر بمواعظه ويعمل بأحكامه ويلزم أوامره ويقف عند حدوده.
وفي هذا الشطر من الآية إشارة ضمنية بأنّ الهداية الحقيقية لا تتحقّق إلا في ظلّ القرآن ووفق منهجه، فهو الكتاب الهادي والحادي في ظلمات الحيرة، لا يترك من طلب الهدى في آياته حتّى يضع قدميه على الصراط المستقيم ويورده الجنّة ويرقى به إلى أعالي درجاتها.. كما يتضمّن المقطع إشارة ضمنية أخرى إلى أنّ لرمضان علاقة وطيدة بالهداية. والتوبة وإن كانت لا تختصّ بهذا الشّهر، إلا أنّ العبد يجد في أيامه ولياليه ما يعينه على الأوبة وتجديد حياته وسلوك درب الهداية، لذلك كان من واجب الأئمّة والدّعاة أن يكثّفوا دعوة النّاس إلى التّوبة في رمضان على أنّه أسنح فرصة للتوبة والصّلاح والاستقامة، وقد ذكر كثير من الدّعاة العاملين في حقل دعوة غير المسلمين إلى الإسلام، أنّهم ربّما يبذلون عشر الجهد الذي يبذلونه في غير رمضان لإقناع غير المسلمين بالإسلام.. هذا فعل رمضان بغير المسلمين الذين لا يفهم كثير منهم القرآن؛ كيف بالمسلمين الذين يفهمون لغة القرآن ويفهمون كثيرا من معانيه؟!
يتبع بإذن الله…
الشروق أونلاين