سؤال المرجفين.. ماذا حقق “طوفان الأقصى”؟ عبد الحميد عثماني

13 أكتوبر, 2024 - 21:45
سؤال المرجفين.. الكاتب الجزائري عبد الحميد عثماني

إنها معجزة بكل المقاييس المادية والمعنوية، أن تصمد المقاومة الفلسطينية طيلة عام كامل في وجه الغطرسة الصهيونية، المدعومة بقوة الشرّ الأولى عالميّا، الولايات المتحدة الأمريكيّة.

إلى اليوم، لا تزال قوى المقاومة متماسكة، مع فقدانها لآلاف الشهداء من كل الصفوف، لكنها تظلّ منافحة ببسالة أسطوريّة على أرضها بكل الجبهات، بل إنها تكبّد العدوّ الإسرائيلي الخسائر البشرية والحربية، وتواصل نصب الكمائن بطريقه داخل القطاع في كل الاتجاهات.

بالمقابل، لم ينجح جيش الاحتلال في تحقيق أهدافه العسكرية والسياسية المعلنة، بالقضاء على حركتي “حماس” و”الجهاد”، وفشل حتى الآن في وقف مبادرة المقاومة التي تبقى صاحبة الكلمة على الأرض، رغم الفارق الصارخ في ميزان القوى بالمعايير الماديّة، وكل ما ارتكبه من جرائم وحشية، خلال 375 يوم، لم تكن سوى قتل للأبرياء وتدمير للعمران، في محاولة مجنونة للانتقام من الحاضنة الشعبية وقطع أوصال المقاومة وتهجير السكان تحت إكراه الموت.

في غضون هذه الملحمة التاريخيّة غير المسبوقة في مسار الانتفاضة الفلسطينية منذ 1948، تمايزت صفوف الأمة، أنظمة ونخبا ومنابر إعلاميّة، أما الشعوب، فلا شكّ أنّ موقفها على قلب رجل واحد، مهما تفاوتت مشاعرها تجاه القضية، فظهرت الأغلبية مؤيدة للمقاومة المسلّحة في استعادة الحقّ والمقدسات، بينما خرج على الناس فريق خاذل خائن، يلتمس لموقفه الأعذار الواهية في التخلّف عن التزحف، تارة باسم التقدير الإستراتيجي للمآلات ومرة بعنوان التأصيلات الشرعيّة الباطلة.

لكن هذا الفريق الذي تنوعت تجلياته، بين قنوات متصهينة وتيارات دينيّة استخباراتية، لم يكن في الواقع سوى صدى لمواقف رسميّة، من عواصم عربية، باعت فلسطين منذ عقود، حفاظا على عروش السلطة.

في بدايات معركة “طوفان الأقصى”، لم يتوان لفيف الإرجاف عن همز تنظيم المقاومة ورجالاتها في عقيدتهم الإيمانيّة، ولمزها العسكري باستفزاز العدو الصهيوني، أي أنّ هؤلاء الرهط من الطابور العربي الإسلامي الخامس قد تولّى، نيابة عن الأبواق العبرية، تبرير العدوان الوحشي على المدنيين في غزّة، عوض الاصطفاف المبدئي، والواجب دينيا وقوميا وإنسانيا، مع حق الدفاع عن الأرض والعرض، وتأييده بكل الوسائل الممكنة.

هؤلاء الخونة تعرفهم من لحن القول وتحريف النقاش، فبينما يتجنّد الأحرار خلف الفلسطينيّين في معركة شرف يخوضونها نيابة عن كل الأمة، يتفرغ المرجفون لإثارة الجدل الممنهج، حول هوية حركة “حماس” الأيديولوجية وعلاقتها بإيران و”حزب الله” والحوثيّين، وبجهل تغلفه الوقاحة، يستدعون فقه السياسة الشرعية المحرّفة، لإسقاط فريضة الجهاد بذريعة طاعة وليّ الأمر!

بل وصلت بهم الجرأة إلى التطاول على المنزلة الإلهية، بمنح أنفسهم صلاحية تصنيف المؤمنين في الآخرة، وإعادة صياغة مفهوم الشهادة من منظورهم المذهبي، فمن رضوا عنه، فهو من الفرقة الناجية، ومن رموه بالبدعة والخروج عن السنة، فهو من الهالكين، ولو سقط في ميدان المواجهة مع العدوّ المبين!

أما الصوت السياسي لفصيل التخذيل، فيأتي على لسان محللين مبرمجين، للاستهزاء بالمقاومة والاستخفاف بقدراتها على إيلام الصهاينة، مقابل التهويل من قوة “الجيش الذي لا يقهر” بمنطقهم، لبثّ الرعب في الصفّ الفلسطيني وإشاعة الهوان في روح الأمة والتماس الحجج الكاذبة للأنظمة الرسميّة في التخلّي عن الحقوق التاريخية.

الحمد لله، أن الوعي الجمعي والمزاج العام لأفراد الأمّة لم يتأثّرا بروح الانهزامية والأباطيل والأراجيف، لتسقط سردية التثبيط وخطابات الخذلان المتدثرة بالحكمة الواقعيّة وفقه السلاطين، أمام بطولة الجهاد التي صمدت وحدها حقيقة ساطعة، تمحّص المؤمنين من المنافقين والمأجورين، راسمة بوصلة الأمة في ضبط الأولويّات وتحديد التحالفات.

غير أن ذلك لم يدفع المرجفين للانسحاب من المهمة الفاشلة، فراحوا يتساءلون بمكر في ذكرى “الطوفان” الأولى: ماذا كسب منه الفلسطينيّون؟ وماذا حقق من مقاصد الإسلام؟

وإذا كان من الترف محاورتهم بخصوص تحقيق مقاصد الإسلام في معركة “طوفان الأقصى”، لأنّ الرأي الفقهي عندهم لا يقوم على المنهج المقاصدي أساسا، بل على هوى وليّ الأمر وحساباته السياسية، فإنه من الضروري الإشارة إلى أن المعركة الجديدة قد أحيت القضية الفلسطينيّة من الوأد الإقليمي والدولي الذي توافق عليه الجميع.

يعمد الفاقدون قيم الكرامة إلى إثارة عدد الضحايا وحجم الخراب الذي صنعه الجيش الصهيوني، للطعن في شرعية “الطوفان” ومشروعيته العسكرية والسياسية والأخلاقية، كأنهم ينتظرون جلاء الاحتلال بتوزيع الورود على المستوطنين اليهود الوافدين من شذاذ الآفاق.

متى كان للحرية ثمن تقاس به وهي الغاية في ذاتها؟ ومتى كان بذل الأرواح يعزّ على تحرير الأوطان؟ وهل وجدتهم استعمارا استيطانيّا أعاد البلاد لأهلها بالمفاوضات والتنازلات؟

إن السعي، بكل يملك أشقاؤنا في فلسطين، لإقامة دولة مستقلة كاملة السيادة من موجبات حفظ المقاصد الكلية في الإسلام، زيادة على كونه حقّا طبيعيّا إنسانيّا وفق كل الشرائع والأعراف، والجدل الموجّه بهذا الشأن ليس سوى دعم مبطن للجريمة الصهيونية.

صحيح أنّ هبّة الأمة بكل مكوناتها الحكومية والشعبية والنخبويّة، من المحيط إلى الخليج، لم ترق حتى الآن إلى مستوى التضحيات الفلسطينيّة، لكن هذا السيناريو المؤسف في تعرية ظهر المقاومة حجة بالغة علينا، وليس ذريعة للعتاب عليها، وهي مجبرة على مواصلة الأخذ بكل الأسباب المتاحة أمامها.

ما قدّمه أهلنا في غزة من شهداء خلال عام كامل من الوحشية الإسرائيلية يعدل ما بذله الجزائريون في أحداث 08 ماي 1945 في بضع أيام معدودات، لكن النصر حالف إرادتهم في الانعتاق من نير الاستدمار الفرنسي بعد أقل من 20 سنة، ولا شكّ أن سنن التاريخ ستتحقق مجدّدا في أرض الرباط، مهما طال ليل الصهيونية الغاشمة.