لم تكن التعددية حاجة لمجتمعنا بُعيد الاستقلال، كما لم تكن حاجةً أحسسنا بها ولا طلبناها حين أوجبتها علينا قمة «لابول» في فرنسا مطلع التسعينيات.
كنا حين رحل المستعمر بحاجة لبناء الإنسان المدني المؤمن بكيان جامع، وكنا بحاجة لترسيخ مفهوم الدولة في الأذهان وتجاوز الانتماءات الفرعية وتجاوز الأطر التقليدية، الأميرية والمشائخية.. وقد نجحنا إلى حد كبير في تحقيق هذه الأهداف رغم ضعف الوسائل ورغم الممانعات القوية داخل المجتمع وخارج البلد، وذلك بفضل زحف الدولة الوطنية على ما كان لأصحاب هذه العناوين من قوة ونفوذ.
لم تكن التعددية في تلك الحقبة ممكنةً، ولو حصلت لكانت على حساب الدولة وهي لمَّا تزل بعدُ في المهد، ولا يمكن التنبؤ بما سينجر عنها. والتطور سنّة الكون، ولا يمكن أن تطلب ممن لم يبلغ سن الفطام أن يقرأ ويكتب، والنُّظم السياسية الناجحة هي التي تعبر عن حاجات المجتمع في مختلف مراحل حياته وتلاحق أحواله وتتطور بها وتُطوِّرَها.
رحل المرحومُ المختار وترك منسوبَ القبلية يلامس الصفر، ومنسوب الجهوية والشرائحية كذلك، وترك شارعاً يغلي حيوية بالرؤى والأفكار والأيديولوجيات المختلفة والمتخالفة، لا يجمع بينها سوى أمر واحد هو أن الوطن غاية الجميع وأن الطرق إلى تلك الغاية شتى.. والكثير من هؤلاء ظل في صف المعارضة للرئيس، لكن الجميع متفق على أنه رجل دولة يخطئ ويصيب، إلا أنه لا يريد شيئاً لنفسه ولا يقبل المساسَ بالمال العام ولا العبثَ به، وحين غادر السلطةَ غادر معه حزبُه وغادر معه معظمُ صحْبه، عكس ما كان عليه حال اللجان العسكرية والأحزاب الحاكمة في ظل تعددية «لابول»، إذ حين يخرج الرئيس يخرج صحْبُه مهللين ومستبشرين بمن أسقطه وحل محلَّه. جاء عسكر بلا مشروع؛ لجان تتوالد من بعضها بعضاً؛ للإنقاذ تارة وللخلاص تارة أخرى، وكلها عناوين تعلن انقلاب فلان على فلان.. فضاع الكثيرُ مما ترك نظام المختار، من أسس نفسية وثقافية للدولة المدنية، ثم كانت «ديمقراطية لابول» فضاع كل شيء؛ الدولة والإنسان والذوق السليم، فأصبح المثقف قبَلياً حتى النخاع وشرائحياً وجهوياً في الخطاب والجوهر، يترنم بأمجاد العشيرة والقبيلة، ولم يبق من الدولة سوى حدود وحرس وعسس وسلطة!
وكما توالدت اللجان العسكرية بعضُها من بعض، لا تختلف اللاحقة عن السابقة إلا في شخص القائد وحده، فالحال نفسه بالنسبة للأحزاب الحاكمة في عهد «التعددية»؛ فهي أيضاً تتوالد بعضُها من بعض ولا تختلف إلا في شخص القائد أما البطانة فنفسها؛ تقول اليوم ما تقول عكسه غداً. هذه ليست تعددية، وتلك ليست سياسة، وحاجتنا الأساسية اليوم هي أن نعيد للدولة معناها، وأن نحارب كل ما يتعارض معها، وأن نعكف على بناء الإنسان وتعليمه وتشغيله وعلاجه وتأمين مستقبل أولاده.. حينها لا ضير في أن نفكر في مشروع سياسي يتلاءم مع واقعنا ويعبّر عن حاجاتنا.
رحم الله الراحلين من قادة البلد وأسكنهم فسيح جناته، وهدى الباقين لما فيه الرشد والصلاح وحفَظ بلادنا من كل مكروه.