يذهب بعض المتتبعين إلى القول بأن الإبداع في مجال الأدب بمختلف أنواعه الشعرية والنثرية لا يختلف كثيرا عن سحر متابعة وممارسة كرة القدم في مختلف الملاعب والمنافسات والمناسبات، بدليل ما يحدث هذه الأيام بمناسبة نهائيات كأس أمم إفريقيا الجارية بكوت ديفوار، وهو ما يعكس شغف الأدباء والشعراء بسحر الجلد المنفوخ، شأنهم في ذلك شأن بقية فئات وشرائح المجتمع.
يخطئ من يعتقد أن الرياضة بشكل عام وكرة القدم على الخصوص هي من اهتمام الشرائح البسيطة في المجتمع فقط، أو الأطراف التي تسعى إلى الاستثمار في هذا الجانب من الناحية المالية، بل إن الجلد المنفوخ يعد أيضا محل شغف فئة واسعة من المثقفين والأدباء والمبدعين، بدليل أن هناك من كتب وكشف عن خبايا هامة حول ظاهرة كرة القدم في قوالب توثيقية وأخرى بمسحة إبداعية، مثل محمود درويش ومعروف الرصافي، وهناك من مارسها وأبدع فيها فوق المستطيل الأخضر، على غرار واسيني الأعرج وآلبير كامو وسليم بتقة وغيرهم، لكن في النهاية استسلموا لمنطق القلم وسحر الورق والكتابة.
واسيني وبتقة.. يد على القلم وأخرى على كرة القدم
يذهب الأديب البلجيكي جان فيليب توسان إلى تصنيف الناس وفق شقين، حيث يذهب الأول إلى المكتبات، وفضل الثاني ملاعب كرة القدم، مؤكدا أن بين المكتبات والملاعب يقوم حائط سميك خفيّ. ورغم هذا التقسيم الذي جعل الأول مستقلا عن الثاني، إلا أنه يؤكد أن بين سحر القلم ومتعة لعب كرة القدم قواسم كثيرة مشتركة، بل لا يشكل ذلك تناقضا بينهما، بدليل شريحة واسعة من الأدباء والشعراء الذين يحبون كرة القدم، بل مارسوها ميدانيا وبرزوا فيها. فالروائي الجزائري واسيني الأعرج لم يخف شغفه بكرة القدم التي مارسها كحارس مرمى مع وداد تلمسان (صنف الأشبال)، وبحسب اعترافه، فإنه لولا تنقله إلى وهران لظروف دراسية بعد نجاحه في البكالوريا، ربما كان سيسلك طريقا غير طريقه الحالي، كما يتذكر واسيني الأعرج أنه كان في فريق السانية الجامعي لكرة اليد بوهران، مشيرا إلى أن الرياضة روح وسخاء عميق ومحبة غالية. وفي السياق ذاته، يعد الروائي والأكاديمي سليم بتقة (أستاذ جامعة بسكرة) واحدا من الأسماء الهامة التي أبدعت بالقلم وفي وكرة القدم، من خلال تقمصه ألوان عدة فرق في عاصمة الزيبان، قبل أن يتفرغ للكتابة والعمل الأكاديمي.
كامو ونجيب محفوظ ودرويش وماركيز كانوا أوفياء للكرة
والمعروف، أن كبار الأدباء والشعراء يحملون اهتماماً كبيراً بكرة القدم، فقد كتب عنها آلبير كامو الذي لعب حارس مرمى لفريق جامعة وهران لكرة القدم عام 1930، حيث يقول كامو عن تأثير كرة القدم فيه: “كل ما أعرف في حياتي، أنا مدين به لكرة القدم”. ويقول كامو في هذا الجانب: “حارس المرمى يستطيع التأمل.. وتعلمت من حراسة المرمى كيف أن الكرة تحتاج تركيزاً وسرعة بديهة، فهي لا تأتي دائمًا من المكان الذي نتوقعه. ساعدني ذلك كثيرًا في الحياة، خصوصاً في المدن الكبيرة، حيث الناس لا يكونون مستقيمين عادة”. كما شغف بها صاحب جائزة نوبل، الروائي نجيب محفوظ، الذي مارسها في شبابه وظل متابعا لها في بقية حياته، مثلما اهتم بها الشاعر الفلسطيني محمود درويش، الذي نشر مقالا عن الأرجنتيني مارادونا بعد مونديال 86 بمكسيكو، وقد كتب درويش مجموعة من النصوص الساحرة عن الكرة، وستلمح الكثير من مفردات اللعبة في أدبيات درويش، فكرة القدم عند درويش “حرب عالمية يمارس فيها خيال الشعوب دوره الغائب أو الحاضر”. كما كتب قصيدة عن اللاعب الأرجنتيني الأسطوري دييغو مارادونا في أعقاب مونديال 1986، ومدح فيها صاحب هدف “يد الله” الذي فاق صاحبه صخباً وتأويلاً وشهرة. وتناول درويش فيها عالم كرة القدم وتفاصيله في هذه القصيدة بالطريقة نفسها التي كان يخوض فيها بقصائده النضالية القضايا العربية وعلى رأسها قضية شعبه الفلسطيني وأرضه. وفي السياق ذاته، فإن صاحب “الحب في زمن الكوليرا” و”مائة عام من العزلة” غابريال غارسيا ماركيز فقد كان لاعباً في فريق أتلتيكو جونيور الكولومبي، قبل أن تحوله إصابة في بطنه إلى مشجع دائم للفريق. في حين كان الروائي إدواردو غاليانو، مشجعاً متحمساً لمنتخب بلاده الأوروغواي، وكتب كثيراً حول كرة القدم في روايات توثيقية، تبدو كأنها تحقيقات حول مسار اللعبة بين عامي 1939 و1994، وتناول فيها حياة اللاعبين ودور الحكام، مثلما تناول الجوانب الاجتماعية التي تؤثر فيها هذه اللعبة.
كرة القدم سيمفونية الفقراء
من جانب آخر، فقد وصفها الأديب الراحل خيري شلبي كرة القدم بـ”سيمفونية الفقراء”. ويعترف غاليانو بأنه كان يحلم بأن يكون لاعبا لكرة القدم، لكن كان ذلك في أثناء نومه فقط، أما في النهار، فكانت قدمه أسوأ قدم متخشبة في الملاعب. أما الشاعر العراقي معروف الرصافي، فيصنف على أنه صاحب أول قصيدة عن كرة القدم، حيث صوَّرها في أبيات شعرية تصف حركة اللاعبين وتقدم بعض قوانينها ومنها:
قصدوا الرياضة لاعبين
وبينهم كرة تراض بلعبها الأجسامُ
وقفوا لها متشمرين
فألقيت فتداولتها منهم الأقدام
وإذا كان الأدباء لم يخفوا شغفهم بكرة القدم بطريقة لا تقل عن اهتمام شريحة الشباب وبقية فئات المجتمع بهذه اللعبة، فيذهب الدكتور باديس لونيس من جامعة باتنة في إحدى مقالاته إلى قناعة بأن ثقافة كرة القدم قد فرضت نفسها، لأن العالم صار بحسب قوله يتكلم هذه اللغة ويفهمها، وتعلقت بها آمال كثيرة للشعوب الغنية والفقيرة، واستمدت شرعيتها كثقافة من انتشارها الذي لا يُنكر، وإغرائها الذي لا يُقاوم. لذلك، وجب علينا بحسب باديس لونيس النظر إلى هذه الثقافة نظرة جدية، خالية من الأحكام التجزيئية المسبقة، ودراستها وتفكيكها ومناقشتها بهدوء وروية، للوصول إلى فهم ولع شبابنا بها.