زَوَرّوا لنا التاريخ لنبقى خارج التاريخ (5)..

19 نوفمبر, 2015 - 09:12

لاحظ الجنرال كونغرييف بأن المفوضية اليهودية كانت تملك الهيكل الفعلي لحكومة موازية للإدارة العسكرية البريطانية في فلسطين، وفي ذلك كتب يقول:” إن وجود المفوضية اليهودية بشكلها الحالي إنما يمثل إهانة للإدارة البريطانية”. الواقع أنه كان للمفوضية اليد الطولى في فلسطين. وفيما يتعلق بتعارض المصالح مع الإدارة العسكرية البريطانية اعتادت المفوضية تمرير مواقفها باللجوء إلى لندن مباشرة،. وهنا يصف كبير ضباط الإدارة العسكرية البريطانية الجنرال لويس جون بولس، المفوضية الصهيونية بأنها إدارة ضمن الإدارة. عندما تولى منصبه كان الجنرال بولس من أشد المؤيدين للصهيونية إلا أنه، وبعد مرور خمسة أشهر، بدأ يطالب بحل المفوضية. كان الجنرال يشعر بإهانة كبيرة وهو يجد نفسه يتلقى الأوامر من المفوضية بدلاً من أن يكون الأمر عكس ذلك.

 كان وايزمان يخطط للقاء الأمير فيصل في معسكره القريب من العقبة في يونيو 1918 بهدف إقناعه بالتعاون المشترك.. وللعمل على إعداد فيصل للقاء الزعيم الصهيوني، كتب مارك سايكس إلى فيصل يقول:” أدرك أن العرب يكرهون ويحتقرون ويدينون اليهود.. ولكن صدقني.. فأنا أتحدث عن الحقيقة عندما أقول بأن هذا العرق، الضعيف المكروه، عالمي ومتنفذ ولا يمكن القضاء عليه …” اضاف سايكس في رسالته بأن اليهود:” موجودون في كل دولة، وفي كل بنك، وفي كل قطاع تجاري بل وفي كل مشروع″.

في اجتماعهما بالقرب من العقبة وفي الموعد الذي حدده الزعيم الصهيوني، أبلغ وايزمان الأمير فيصل بأن اليهود لا يعتزمون طرد العرب، وطلب منه اعتباره حليفاً كما فعل رئيس الحكومة البريطانية لويد جورج. ومع أن فيصل استقبل “ضيفه” بود إلا أنه لم يلزم نفسه بوعود أو اتفاقيات. غير أن وايزمان خرج من لقائه المذكور وهو على قناعة بأن الأمور ستكون على ما يرام بوجود فيصل على رأس حركة القومية العربية.

في شتاء 1918 عاد وايزمان إلى لندن حيث دعاه رئيس الحكومة لويد جورج للقاء على الغداء بتاريخ 11 نوفمبر، وهو اليوم الذي شهد نهاية الحرب العالمية الأولى. كان وايزمان وقتها قد قطع شوطاً في الإعداد لوضع الحركة الصهيونية في مؤتمر السلام القادم الذي سيعقد في يناير 1919. وصلت إنجازات وايزمان السياسية ذروتها في المؤتمر المذكور .. فهو لم ينجح في ضمان التأييد العالمي لإعلان بلفور بل نجح في الحصول على تصديق دولي على الإعلان. فقد جاء منح بريطانيا صك الانتداب على فلسطين حصيلة لهذه الجهود  في المقام الأول، وهو الصك الذي حمل في طياته تفويض القوة الاستعمارية في فلسطين مسؤولية العمل على مساعدة اليهود في إقامة دولتهم القومية هناك. وهكذا يكون وعد بلفور الذي قطعه لورد بريطاني للورد بريطاني آخر قد اكتسب الشرعية الدولية. وبذلك يكون وايزمان  قد حصل على كل ما أراده، في تطور لا يجب أن يثير دهشة أحد خاصة وأن:” رئيس الوزراء لويد جورج ووزير الخارجية بلفور استمرا في النظر إلى وايزمان كزعيم يتمتع بقوة غامضة عالمية قادرة على التحكم بخيوط التاريخ.

بالرغم من كل ما حققوه من نجاح تاريخي، فإن الصهاينة لم يخفوا خيبة الأمل وهم يرون بأن الحدود الإقليمية لدولتهم الموعودة جاءت دون الحد الأدنى المقبول من جانبهم. فقد كانت الخارطة الصهيونية المقدمة للمؤتمر تضم جنوب لبنان ومرتفعات الجولان، وجزءاً كبيراً من الأرض الواقعة شرق نهر الأردن، علماً بأن المساحة التي غطاها الانتداب البريطاني لم تتجاوز نصف المساحة التي وردت في الخارطة الصهيونية. كان من بين المقترحات التي بحثت في مؤتمر السلام تشكيل لجنة تكلف باستمزاج رأي الفلسطينيين في سلطة الانتداب التي يريدون أن تحكم بلادهم. تم تشكيل اللجنة المذكورة التي عرفت باسم لجنة كينغ -كريين برئاسة هنري تشيرتشيل كينغ ، رئيس كلية أوبيربين في أوهيو، الذي عرف بنشاطه الديني والتبشيري والتجاري، ومعه شالرز كريين رجل الأعمال والصناعي من شيكاغو والصديق المقرب من الرئيس ويلسون. خرجت اللجنة بنتيجة مؤداها أن الأغلبية العظمى من الفلسطينيين يفضلون الحكم الأمريكي وبالتالي فقد جاءت توصيتهم على هذا الأساس. لم يتح للرئيس ويلسون الاطلاع على تقرير اللجنة، حيث كان يعاني وقتها من المرض واختفى التقرير في أحد الملفات، ولم يسمع أحد به إلا بعد أن عثر عليه أحد الصحفيين الأمريكيين لاحقا ونشره كسبق صحفي.

 فيصل بعد الحرب العالمية الأولى

اجتمع الأمير فيصل مع وايزمان مجدداً ولكن في أوروبا هذه المرة، حيث ادعى الصهاينة بأنه وقع وثيقة قبل فيها إيجاد أغلبية يهودية في فلسطين بشرط منحه مملكة عربية مستقلة واسعة. بعد الحرب سافر فيصل إلى أوروبا لحضور مؤتمر السلام في وقت كانت فيه كامل المنطقة( الشرق الاوسط) تصنف كمنطقة عدو محتلة وتخضع للحكم العسكري. وصل فيصل إلى لندن، حيث حظي باستقبال حار يشتم منه رائحة التملق، لم ينجح في تخفيف وطأة الأنباء السيئة التي أخذت تتوالى عليه بعدها تباعاً. سرعان ما اكتشف فيصل بأن اتفاقية سايكس بيكو كانت حقيقة واقعة وليست شائعات مغرضة مصدرها البلاشفة كما أفهموه سابقاً.. طلب منه المؤتمرون المصادقة على المشروع الصهيوني في فلسطين بموجب اتفاق بينه وبين وايزمان.  وجد فيصل نفسه في موقف حرج لا يستطيع معه التصرف. فقد كان شاب في الثلاثينات من العمر لا يجيد الإنجليزية ولا الفرنسية، ولا يملك خبرة أو حتى معرفة دبلوماسية تذكر. كان البريطانيون متمسكين بموقفهم من القضية الفلسطينية، ويريدون من الأمير فيصل الخضوع لمشيئتهم وللضغوط الصهيونية للتوقيع على اتفاقية رسمية. لم يكن فيصل قادراً على التصرف، فقد كانت الاتفاقية المطلوب منه توقيعها خارج أجندة رحلته الأوروبية، ومن شأن توقيعه عليها إشعال غضب عرب الشمال. وفي الوقت ذاته لم يكن فيصل  قادراً على رفض طلب رعاته وأولياء نعمته: البريطانيين، خاصة بعد الطريقة التي عامله بها الفرنسيون. وعليه فإن فيصل لم يجد بداً من الرجوع لوالده طلباً للمشورة. جاء رد الشريف حسين واضحاً ومختصراً: عليه عدم القبول بأقل من وفاء البريطانيين بتعهداتهم، بما فيها تلك الخاصة بفلسطين كما سمعها من البريطانيين. كانت تعليمات الشريف حسين واضحة ولم تعط فيصل أي مجال لحرية التصرف بأي شيء. كلفت وزارة الخارجية البريطانية لورنس التفرغ لإقناع فيصل بالتعاون، وكان فيصل حريصاً تماماً على عدم استعداء البريطانيين بأي حال.. فقد كان يرى فيهم أمله الوحيد. وعليه وعلى عكس تعليمات والده، وافق فيصل على التوقيع على الاتفاقية، الأمر الذي كان يريد الصهاينة تحقيقه قبل انعقاد مؤتمر السلام. غير أن فيصل طلب إقران الاتفاقية بملحق يشير إلى أن موافقته عليها مرهونة بوفاء البريطانيين بتعهداتهم بشأن استقلال العرب. ومع أن فيصل اعتبر فكرة الشرط الذي وضعه التزاماً بتعليمات والده باعتبار موافقته على الاتفاقية سيعتبر لاغياً في حالة نكوص البريطانيين عن تعهداتهم لأبيه، إلا أن الدعاية الصهيونية قللت الاوسط من أهمية تحفظات فيصل، وادعت بأنه وافق على المشروع الصهيوني.

شرق أوسط جديد في مؤتمر القاهرة

 بتاريخ 12 مارس 1921 عقد في فندق سمير أميس في العاصمة المصرية ما عرف لاحقاً بـ: مؤتمر القاهرة، شارك فيه ما بين 40 إلى 50 خبيراً  في شؤون الدبلوماسية البريطانية في الشرق الأوسط. ناقش المؤتمرون وعلى رأسهم وينستون تشيرتشل عددا من القضايا. غير أن قضيتي:  أرض الرافدين والمسألة الفلسطينية كانتا أكثر ما يهم تشيرشل الذي غادر القاهرة إلى القدس في اليوم التالي لانتهاء أعمال المؤتمر التي امتدت حتى 22 مارس .

 ناقش مؤتمر القاهرة القضية الأكثر إلحاحا والأشد إزعاجاً بالنسبة للبريطانيين، وهي تصاعد المقاومة الوطنية في أرض الرافدين وفلسطين، فقد كانت كلفة مواجهة المتمردين هناك تستنزف موارد الإمبراطورية. وفيما يتعلق بقضية أرض الرافدين توصل المؤتمرون إلى أن أفضل سياسة يمكن انتهاجها هناك هي العمل على خفض كلفة الاحتلال ما أمكن، وتقوم الإستراتيجية التي اقترحها تشيرتشل على: التركيز على القوة الجوية البريطانية في توجيه ضربات للمقاومة، مع تكليف حكومة عربية محلية خوض حرب وحكم البلاد بالنيابة. كان هناك إجماع على اختيار الأمير فيصل باعتباره أفضل من ينوب عن البريطانيين في القيام بهذه المهمة. كما اتفق الجميع على ضرورة توخي الحذر تماماً في عملية تنصيب فيصل ملكاً على العراق، بحيث تبدو العملية كما لو كانت تتويجاً لإرادة وطنية محلية وخياراً لا دخل لبريطانيا فيه. تم استدعاء فيصل من لندن وإبلاغه بالقرار.

 أصرّ الجنرال اللنبي، الذي أصبح المفوض السامي البريطاني في مصر، على ضرورة منح مصر قدراً من الاستقلال كوسيلة لتخفيف حدة الثورة وأعمال العنف ضد الاحتلال حيث اعتمدت الفكرة وتم إعلان استقلال مصر عام 1922 ولكن من جانب واحد حيث، لم يجد البريطانيون طرفاً مصرياً يقبل بالشروط الملحقة بوثيقة إعلان الاستقلال.

  في هذه الأثناء كان شرق نهر الأردن_ الذي كان يطلق الصهاينة عليه شرق فلسطين- يعاني من الاضطراب. ولتهدئة الوضع، كان البريطانيون بحاجة إلى نشر كتيبتين هناك طبقاً لتقديرات رئيس الأركان العامة الإمبراطورية الذي أضاف قائلاً ” الأمر الذي نفتقر له بالطبع″. جاء اقتراح تشيرتشل بتكرار السيناريو نفسه الذي طبقه البريطانيون في العراق من خلال وضع الأمير عبد الله، شقيق الملك فيصل، حاكماً مؤقتاً على شرق الأردن لفترة ستة أشهر، الأمر الذي اعترض عليه هيربرت صامويل بشدة قائلاً بأن المنطقة المذكورة تقع ضمن أرض فلسطين كما حددها صك الانتداب الصادر عن عصبة الأمم. غير أن تشيرتشل رد بأن فلسطين الجغرافية لم تحدد في وعد بلفور، وبأن اقتراحه يحترم التعهدات البريطانية. ويبدو أن صامويل رفع الأمر إلى الدوائر الصهيونية في لندن حيث إن تشيرتشل تلقى على إثرها برقية من رئيس الوزراء لويد جورج جاء فيها القول:”  ناقش مجلس الوزراء مقترحاتكم بشأن شرق الأردن والتي أثارت الكثير من الهواجس لدى الأعضاء”. غير أن تشيرتشل ومؤيديه استطاعوا فرض رؤيتهم في مؤتمر القاهرة. وفي القدس اجتمع تشرتشيل بالأمير عبد الله أربع مرات، وتوصل معه لاتفاق قبل أن يرفع تقريراً للحكومة في لندن بهذا الشأن جاء فيه القول بأن موقف عبد الله اتسم بـ:” الاعتدال والود والتحلي بمسؤولية رجل الدولة”. أما فيما يتعلق بالمتظاهرين العرب ضد الصهيونية فقد أظهر عبد الله ” الموقف اللائق، حيث أدان المتظاهرين وقال بأن البريطانيين أصدقاء، وأعرب عن ثقته بوفاء الحكومة البريطانية بتعهداتها تجاه اليهود وتجاه العرب على حد سواء”. وافق عبد الله على تولي الحكم لستة أشهر كفترة تجريبية، يساعده خلالها عميل سياسي بريطاني،  ويحظى خلالها بدعم مالي ولكن بدون دور عسكري ظاهر لبريطانيا في الإمارة الجديدة. شكل ذلك الخطوة الأولى على طريق إعلان قيام إمارة شرق الأردن التي أصبحت المملكة الأردنية الهاشمية بعد ذلك بربع قرن.

 د. عبد الحي زلوم

مستشار ومؤلف وباحث

راي اليوم