عادت دولُ أمريكا اللاتينية لجلد أنظمةٍ عربية وإسلامية وكشف تخاذلها في نصرة القضية الفلسطينية، فهذه البلدان البعيدة عن غزة من ناحية انتمائها وجغرافيا أيضا بآلاف الكيلومترات، كانت أقرب إلى أهلها إنسانيًّا ورفعت سقف التضامن إلى درجة إحراج إخوة الدين والعروبة.
وبعد كولومبيا التي تحرّكت في أيام العدوان الأولى بطرد السفير الصهيوني، جاء الدور على بوليفيا والشيلي، في وقت مازال عَلم هذا الكيان يرفرف في عدة عواصم عربية وإسلامية، بل أن دبلوماسيي هذه الدول يتابعون مذابح غزة من شاشات التلفزيون بتل أبيب، باستثناء الأردن التي قامت باستدعاء سفيرها الاربعاء.
ودول أمريكا اللاتينية التي عانت من الاستعمار والامبريالية الغربية، ظلت مواقفُها في نصرة القضية الفلسطينية ثابتة، وسبق للرئيس الفنزويلي الراحل هيغو شافيز أن طرد عام 2009 سفير تل أبيب، بسبب عدوان غزة آنذاك، ووصف جيشها بالجبان.
ومقابل هذا المشهد هناك التفافٌ غربي حول الاحتلال الإسرائيلي الذي تلقى دعما سياسيا وعسكريا وتغطية من آلة إعلامية ضخمة لتحريف الحقائق وتسويقه في ثوب الضحية التي تحارب من أجل الحياة ونشر العدل والحضارة في المنطقة.
لكن الغائب الأكبر وسط المشهدين، هو دولٌ عربية وإسلامية تعدّ فلسطين في عقيدة شعوبها القضيةَ المركزية التي كان من المفترض أن تتلاشى بشأنها كل الحسابات وحتى الخلافات من أجل موقف واحد لنصرتها، غير أن ثلاثة أسابيع من العدوان الوحشي الذي يقتل ما معدله 400 فلسطيني يوميًّا، كشفت أن أنظمة أغلب هذه البلدان لم تغضب بعد وتكتفي بإطلاق بيانات شجب على استحياء تراعي في كتابتها عدم إثارة سخط تل أبيب والغرب، وحتى معبر رفح الذي تديره مصر والسلطة الفلسطينية تحت رقابة الاتحاد الأوروبي، تتحكم في مصيره تل أبيب.
كان يمكن تفهُّم هذه المواقف لو كان الأمر يتعلق بحرب مسلحة بين الجيش الصهيوني وفصائل المقاومة التي يبدو أن أنظمة في المنطقة تعاديها أكثر من تل أبيب، لكن نحن أمام إبادة شعبٍ عربي مسلم، وحتى لو وضعنا مسألة الانتماء جانبا، ألم يتحرك الضميرُ الإنساني لدى هؤلاء ليقولوا كفى ليس بالقول ولكن بإجراءات حازمة؟
لقد بحّ صوت الفلسطينيين في طلب النصرة من إخوانهم العرب والمسلمين طيلة ثلاثة أسابيع، لكن يبدو أنهم فقدوا الأمل في الحصول على أكثر مما رأوا، ودليل ذلك أن القائمين على الأوضاع في غزة لجؤوا إلى جمع الوقود من البيوت لضمان استمرار عمل المستشفيات، في الوقت الذي تعدّ دول المنطقة أكبر مصدِّر للمحروقات في العالم.
وبذكر مسألة النفط، فإن العرب سبق وأن استعملوا هذه الورقة خلال حرب أكتوبر 1973 ضد الولايات المتحدة الأمريكية والغرب، بسبب دعمهم للاحتلال الإسرائيلي، وانخرطت السعودية والعراق وقطر والجزائر والكويت والإمارات في قرار موحّد بحظر تصدير النفط العربي، وهو ما سُمي “صدمة النفط” التي زعزعت الاقتصاد العالمي ودفعت دولا غربية إلى التراجع عن دعم تل أبيب.
أما بشأن العلاقات مع الكيان، فإنّ عدوان غزة عام 2009 كان فرصة لسلطات موريتانيا لغسل يديها من عار التطبيع الذي وقع في عهد الرئيس السابق معاوية ولد سيد أحمد الطايع، بطرد السفير الإسرائيلي وحتى هدم مبنى تلك السفارة بعدها بالجرّافات احتجاجا على هدم مباني الفلسطينيين.
لكن إسقاط هذه الوقائع التاريخية على أحداث اليوم يبدو كأنه صيحة في وادي، بحكم أن بلدانا عربية وإسلامية، لم تجرؤ حتى على إصدار بيانات ولو بلغة دبلوماسية لطرد سفراء وممثلي الكيان لديها، كما أن عقد قمة عربية “طارئة” بعد أكثر من شهر من العدوان؛ أي يوم 11 نوفمبر وعلى هامش قمة أخرى افريقية- عربية، رسالة لا تقبل التأويل عن أن غزة أضحت في ذيل أولويات أنظمة عربية، وقد يكون هذا الاجتماع لبحث ما بعد الحرب وليس لوقفها.
وكان الجواب على هذه المفارقة من نتانياهو قبل أيام، عندما قال إن هزيمة حماس في غزة هي انتصارٌ لأصدقائه العرب، ودعّم هذا الطرح المبعوث الأمريكي السابق إلى المنطقة دينيس روس الذي نقل عن مسؤولين في دول عربية تأكيدهم أن القضاء على المقاومة هو رغبة لقادة دول عربية وليس تل أبيب وواشنطن فقط.
وتبدو طريقة تغطية قنواتٍ عربية للعدوان على غزة وكأنه حرب في بقعة بعيدة من العالم، فضلا عن تصريحات وكتابات ناشطين عرب تدعم الاحتلال، إشارات واضحة بأن خذلان غزة هذه المرة ليس بسبب أنظمة لا حيلة لها، لحسابات سياسية وحتى داخلية، وإنما حالة تواطؤ واضحة لتصفية القضية والمضيِّ في مشاريع جديدة تم رسمها سابقا وتبقى المقاومة إحدى عقباتها الرئيسية.