المرابطون.. والطائفيون! / سلطان بركاني

16 أكتوبر, 2023 - 20:44

قضى الله -سبحانه- وقضاؤه ماضٍ، أن يكون أهل الرّباط والثّغور هم بوصلة الأمّة التي تمحَّص بها الدّعاوى، ويعرف بها السّائرون على الصّراط المستقيم، ممّن حادت بهم الأهواء والآراء والطّوائف والأحزاب ذات اليمين وذات الشّمال، ويتميّز بها المؤمنون الصّادقون الموالون لله ولرسوله ولدينه، من المذبذبين والمنافقين الذين تنطق ألسنتهم وأقلامهم في أوقات المحن بما يختلج نفوسَهم من تذبذب وولاء لأعداء الأمّة وضغائن لأهل الحقّ وللطّائفة المؤمنة المرابطة التي أبى الله إلا أن تظلّ رايتها خفاقة رغم الخذلان والتآمر.

هاهم المرابطون في المسجد الأقصى وحواليه وفي غزّة، تتمايز برباطهم الصّفوف، ويظهر الله بجهادهم مكنونات النفوس وحقائق الدّعاوى التي طالما نفخ فيها أصحابها حتّى كادت تسدّ الأفق، وحتّى اغترّ بها كثير من شباب الأمّة غير العارفين بهذا الميزان الدّقيق في تمييز الدّعاوى، ذلك الميزان الذي أرساه القرآن في قول الله تعالى: ((وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِين)) (العنكبوت: 69)، وأبانه أئمّة الإسلام في عباراتهم، قال الإمامان عبد الله بن المبارك وأحمد بن حنبل وغيرهما: “إذا اختلف النّاس في شيء فانظروا ماذا عليه أهل الثّغر، فإنّ الحقّ معهم”، وينسب إلى الإمام الشافعيّ -رحمه الله- أنّه سئل: كيف نعرف أهل الحق في زمن الفتن؟! فقال: “اتّبع سهام العدو، فهي ترشدك إليهم”.. ويشهد القاصي والدّاني أنّ الأمّة لم تعرف طائفة اجتمعت عليها قلوب عامّة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، ولا يقاتلها إلا عدوّ كافر أو مُوَالٍ له، غير تلك الطّائفة التي تقاتل في الأرض المقدّسة. ولذلك ورد في بعض روايات حديث الطّائفة المنصورة أنّها ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس.

ولعلّ من أغرب الدّعاوى التي أظهرت الطّائفة المنصورة زيفها، دعوى بعض الطّوائف الانتساب إلى سلف الأمّة، مع إصرارها على خذلان المرابطين في الأقصى، تارة بحجّة أنّ الجهاد لا بدّ له من إذن وليّ الأمر، وأخرى بحجّة أنّ الجهاد لا بدّ له من عقيدة صحيحة، وغاب عن هؤلاء أنّ المسلمين في تاريخهم كانوا إذا دعا داعي الفلاح، يجتمعون -على اختلاف طوائفهم- على قتال العدوّ.. وقد أظفر الله عباده على أعدائهم في محطّات مهمّة من التاريخ، مع أنّ قادتهم لم يكونوا على هذه العقيدة التي تعرض الآن على أنّها وحدها العقيدة الصحيحة؛ فالعباسيون تبنّى بعض أمرائهم القول بخلق القرآن، ومع ذلك جاهد خلفهم المسلمون، وكان النّصر حليفهم.. والسلاجقة كان عامّتهم متصوّفة، ولم يمنع ذلك المسلمين من الجهاد معهم وتحقيق انتصارات كتبت على صفحات التاريخ بأحرف من ذهب.. والنّاصر صلاح الدين الأيوبي كان منسوبا إلى الأشاعرة، ولم يمنع ذلك جموعَ الأمّة من الانضواء تحت لوائه لاسترداد المسجد الأقصى، وقد تحقّق النّصر الذي يعتزّ به كلّ مسلم إلى قيام السّاعة.. أمّا فاتح القسطنطينية محمّد الفاتح، فقد قاد جموع المسلمين لفتح القسطنطينية، ولم يعترض أحد من المسلمين على كونه متصوّفا، بل يرى أكثر العلماء أنّه المعنيّ ببشارة النبيّ -صلّى الله عليه وآله وسلّم- ودعائه في قوله: “لتفتحن القسطنطينية، فلنعم الأمير أميرها، ولنعم الجيش ذلك الجيش” (صححه الحاكم والذهبي).

من واجب علماء الأمّة أن يهتمّوا بتصحيح عقائد النّاس، وبيان مخالفة بعض الأقوال التي يلفظها بعض المسلمين وبعض الأفعال التي يأتونها لحقائق الدّين، لكن عندما تتقابل الصّفوف في أيّ شبر من هذا العالم بين المسلمين من جهة وبين الأعداء المحاربين المتربّصين بالأمّة من جهة أخرى، فالوقت حينذاك هو وقت الولاء والبراء، يحرم فيه أن يُفتّ عضد الأمّة وتشقّ الصّفوف بتقصّي عقيدة المسلمين الذين يقفون في مواجهة الكافرين!

ثمّ هل المرابطون في غزّة وحوالي المسجد الأقصى، على عقيدة غير صحيحة، حتّى يشهر المرجفون سكاكينهم ليغرزوها في خواصر أهل الثّغور؟ معروف عن أولئك الأبطال أنّهم مسلمون موحّدون، لا يشركون بالله شيئا، وأنّهم على منهج أهل السنّة والجماعة.. أمّا علاقتهم بالدول والجماعات، فهذه لا تحكم بالأصل وحده، وإنّما تراعى فيها الضّرورة الملجئة.. فليس من الدّين ولا من العدل ولا من المروءة أن نسكت عن الحصار الخانق المفروض عليهم، ثمّ نلومهم على قبول الدّعم من هذه الدّولة النصرانية أو الدّولة الشيعية! ولعلّ العجب إن انقضى ألا ينقضي من أقوام يصدحون ويتباهون بمشروعية الاستعانة بالكافر المحارب على المسلم، ثمّ هم ينكرون الاستعانة بالمسلم المخالف على العدوّ الكافر! ((مالكم كيف تحكمون)).

استمعت يوم السّبت الماضي إلى خطبة مسجّلة لإمام مسجد في الجزائر، تحدّث فيها عمّا يجب على المسلمين فعله لنصرة فلسطين، استهلّها بحديثه عن الانتصار الذي سرعان ما تحوّل إلى مجازر يرتكبها “إخوان القردة والخنازير” في حقّ المسلمين في فلسطين، قبل أن يدخل سريعا في صلب موضوعه، ويؤكّد على أنّ النّصر لم يتحقّق لأسباب يجب الوقوف عندها، ثمّ أجاد وأفاد في تقريع عوامّ المسلمين بتقصيرهم في واجبات دينهم.. وكان كلامه حقًّا، لكنّه في سياقٍ غير مناسب.. قبل أن يستطرد متسائلا كيف يمكن أن نُنصر مع هذا الواقع وهذه الحال؟!

وفي خطبته الثانية أنكر الخطيب على من خذلوا غزّة، من دون تحديد مسؤولياتهم، ودعا للمسلمين المستضعفين في فلسطين بأن يكون الله لهم على اليهود ومن أعانهم، وأن يداوي الله جرح أهل فلسطين ويرحم موتاهم -كذا- وينزل السّكينة عليهم، وينزل رجزه وبأسه وعذابه باليهود.. وكان لافتا أنّه تحاشى الدّعاء لجند القسّام! ولم يكن مستغربا منه أن يتحاشى الدّعاء للمجاهدين الذين سطروا أروع البطولات وحملوا أرواحهم في أكفّهم فداءً لدينهم ومقدّساتهم، وهو الذي بدأ خطبته بقوله: “إنّ ما حدث لليهود على أرض فلسطين الحبيبة هذه الأيام يبهج النفس ويثلج الصّدر، ويشفي بعض الغلّ الذي في قلوبنا على أعداء الله ورسوله إخوان القردة والخنازير”، من دون أيّ ذكر لمن كانوا سببا في الذي حلّ باليهود! قبل أن يشير سريعا إلى تطوّر الأمور لصالح “اليهود”.. بل إنّه قد أشار -تلميحا- في خطبته الأولى إلى سببٍ من أسباب تأخّر النّصر عن أهل غزّة -حسبه- حين قال: “واعلم رحمني الله وإياك أنّ القوة الإيمانية هي أهمّ القوتين؛ فقد يُنصر الضعيف المؤمن، ولا يُمكّن للفاسق القوي، وكيف يمكن للفاسق وقلبه لا يحمل مشروع إقامة دولة الإسلام، وإنما في قلبه تطبيق القوانين الإفرنجية بديلا عن شريعة رب العالمين”، ولعلّه -ظنا وليس تحقيقا- يريد بكلماته هذه أن يلمز حركة المقاومة الإسلامية (حماس) في غزّة بما يشيعه بعضهم أنّها “حركة ليست إسلامية شاء من شاء وأبى من أبى”! مع أنّ الغرب يشيطنها لا لشيء إلا لأنّها أعطت طابعا إسلاميا لجهادها ضدّ الصّهاينة المحتلّين.

إنّه لأمر مؤسف غاية الأسف أن تتحاشى الألسن الثّناء على أولئك الأبطال والدّعاء لهم بالنّصر والتأييد، لا لشيء إلا لأنّهم من جماعة مسلمة أخرى غير “الفرقة الناجية”، أو للظنّ بأنّهم ليس في أنفسهم العمل بشرع الله! في الوقت الذي نسمع فيه كثيرا من تلك الألسن ترتفع بالدّعاء لمن هم أقلّ حرصا على نصرة دين الله من أهلنا في غزّة، وترى ذلك من أمارات التسنّن!

هكذا ستظلّ غزّة تكشف الموازين المائلة، وتهدم الأصول التي تبنى على أسس طائفية بحتة.. لترسم (غزّة) للأمّة طريقا في الأفق واضحا لاستعادة فلسطين وافتكاك النّصر الموعود، طريقا يكون الولاء فيها لدين الله تعالى بعيدا عن التعصّب للطّوائف والجماعات والأصول التي وضعها منظّروها، تماما كما كان الأمر في أزمنة العزّ والسؤدد.

إضافة تعليق جديد