العمل الحزبي بين قيد الإيديولوجية وخدمة الصالح العام /عبد الوهاب دربال/ سياسي جزائري

6 أكتوبر, 2023 - 16:27

لا يمكن تصور أيّ نشاط بشري من دون قناعة فكرية أو تصور لأهداف واضحة تحكمه قيما ومبادئ.

ونحن هنا نتكلم عن النّشاط البشري الذي يُعنى بخدمة المجتمع وتطويره نحو حياة أفضل والذي عُرِف لاحقا بالإصلاح الاجتماعي.
ولا يمكن تصور من يقوم بمهمة الإصلاح إلاّ من كان صالحا بداءة، كما لا يمكن أن نتصور أنّ صالحا مصلحا لا يستند إلى مرجعية فكرية ومصدر عقديّ وقيمي.

التّجاذب الدّائم حول هذه القراءات والقناعات المختلفة مازال يُقيِّد حركة المجتمع العامّة في حياته كلها، السياسية وغيرها، كما أنّ المنشغلين بالعمل السّياسي يَقَعون أسرى هذا التّجاذب، الأمر الذي يعكسه قاموس من الصّفات التي مجّها النّاس وسئموا سماعها، ومنها: الظلامية، الحداثة، والأصولية والانفتاح، والمبادئ والمصالح، والثوابت والعصرنة، وكأنّ المعركة التاريخية بين العقل والنقل ما زالت لم تعرف نهايتها.

هذا النشاط البشريّ لا يقوم به عادة إلّا أولو العزم من النّاس، هؤلاء الذين يشعرون بالتزام أخلاقي أو ديني أو وطني أو قومي اتجاه مجتمعهم، يحملون همّه ويعانون شواغله ويعملون على ترقيته وصون كرامته.
ومن أجل تحقيق هذه الأهداف النّبيلة يعمل المصلحون في مجتمعاتهم انطلاقا من خزّان من القيم والمبادئ والمعتقدات والتصورات تُشكِّل في مجموعها مرجعية فكرية وقناعة نفسية يطلق عليها عادة اصطلاحا (إيديولوجيا)، وهي مصطلحٌ غربي المنشأ تم تعريبه ضمن حملة التعريب.
ويتّفق المنشغلون بالعلوم الإنسانية على أنّ إصلاح شأن المجتمعات لا يتأتّى إلّا بإصلاح الأفراد فيه، ويأخذ الصلاح والإصلاح مفهومه من مجموعة القيم والعقائد التي تسود المجتمع وتشكّل تميُّزه الحضاري والتاريخي. ولهذا تَنْصبُّ عملية الإصلاح على استنباط الوسائل وتحديدها استنادا على القواعد القِيَمية التي تُشكّل الأرضية المشتركة للضمير الجمعي.
هذه الأرضية المشتركة هي المرجعية الأساسية لكل إصلاح مأمول.
إنّ الارتكاز على هذه الأرضية المشتركة واعتبارها المرجعية الفكرية والعقدية والقِيَمية للنشاط الاجتماعي حزبيا كان أم جمعويا هو معيار الحكم على الصفة التي يتميز بها أي تنظيم يسعى لخدمة الصالح العام.
يبدو أنّ التعامل مع هذه الأرضية المشتركة هو المؤشر الذي يدل على الصفة التي يتميز بها التنظيم المنشغل بالشأن العام.
وهنا يمكن التمييز بين العمل السياسي الحزبي وعمل الإصلاح الاجتماعي العام المناط بالنّشاط الجمعوي.

يرى البعض أنّ النّشاط الحزبي يَنْصبُّ كلية على تحسين ظروف العيش في المجتمع، وهو ينشغل بمصالح العباد في سد احتياجاتهم ومصالحهم الحياتية في العمل والسكن والصحة والتعليم والأمن وكل ما يؤمِّن ذلك بقيادة تسهر على ضمانها وتحسينها، أمّا ما عداها فلا يتجاوز التوجيه الأخلاقي، ولذلك مثلا يرى بعض المتحزبين أنّ الدين لا يشكّل مرجعا تشريعيا مُلزِما ولكنه ملجأ للنّصح والتّوجيه والتّهذيب، وهذا التّوجه هو المعروف اليوم بالتّيار العِلماني. في حين ترى تياراتٌ أخرى -ومنها ذات المرجعيّة الإسلاميّة والوطنيّة- أنّ الإسلام مرجعية فكرية وتشريعية في آنٍ واحد، وأنّ النّص على إسلامية الدولة في الدستور يُلزِم كل المؤسسات بأن لا تَسُنَّ أيّ قانون أو تنظيم يتضارب مع أحكام الشّريعة القطعية في الثبوت والدّلالة. في حين تميل الأحزاب العلمانية وبعض الأحزاب الوطنية إلى أنّ شؤون الحياة كلها مصلحية، وعليه يدور التّشريع في المصلحة وجودا وعدما، خاصة وأنّ القواعد الشّرعية فيما يتعلق بحياة الناس ودنياهم تدور في غالبيتها العظمى حول النصوص الشّرعية القطعية في الثبوت والظنّية في الدّلالة.
إنّ التّجاذب الدّائم حول هذه القراءات والقناعات المختلفة مازال يُقيِّد حركة المجتمع العامّة في حياته كلها، السياسية وغيرها، كما أنّ المنشغلين بالعمل السّياسي يَقَعون أسرى هذا التّجاذب، الأمر الذي يعكسه قاموس من الصّفات التي مجّها النّاس وسئموا سماعها، ومنها: الظلامية، الحداثة، والأصولية والانفتاح، والمبادئ والمصالح، والثوابت والعصرنة، وكأنّ المعركة التاريخية بين العقل والنقل ما زالت لم تعرف نهايتها.
وذهب بعضهم إلى إيجاد ملجأ يرى فيه أنّ العمل السياسي يدور مع المصلحة حيث دارت، وأنّ العمل الجمعوي يتكفّل بالإصلاح الاجتماعي، والرّقابة الشعبية ويهتم ببناء الضّمير الجمعي ويصون المجتمع في قيمه ومعتقده ومبادئه ويشكّل بذلك وسيلة ضغط دائمة على السياسي أيّا كان موقعه، في السلطة أو المعارضة.
غير أنّ هذا الملجأ ليس حلّا ولا هو آمنٌ دائما. النّشاط الجمعوي نشاط مفتوح يستغله المُصلِح والمُفسِد على حدّ سواء، وأرى أنّ التطبيق الصّارم لأحكام الدستور فيما يتعلّق بالمواد الصّمّاء ضمانة أولى وأكيدة للحد من هذا التجاذب الذي لم يُلحِق بالمجتمع إلّا ترهّلا مزمنا.