ميثاق/عروبة22"
يأتي رحيل الكاتب والمُترجم المصري الملقّب بـ"شيخ المترجمين"، شوقي جلال (1931 – 2023)، ليُذكّرنا بواقع الترجمة في البلدان العربية وما آلت إليه الترجمات في الأعوام القليلة الماضية، من تراجع وإخفاق رغم تزايد أهمّيتها في ظلّ المتغيّرات الطارئة والمتسارعة في "القرية الكونية".
العرب والترجمة.. لكي لا نصنع عزلتنا بأيدينا!
غيّب الموت، فجر الأحد 17 أيلول/سبتمبر، شوقي جلال، في مسقط رأسه في القاهرة عن عمر ناهز الـ92 عامًا إثر وعكة صحية ألمّت به. وقد أغنى الراحل المكتبة العربية بأعمالٍ وترجماتٍ عالميّة، من بينها كتاب "بنية الثروات العلمية" من تأليف الفيلسوف الأميركي توماس كون و"المسيح يصلب من جديد" للروائي اليوناني نيكوس كازانتزاكيس، و"لماذا ينفرد الإنسان بالثقافة؟" لمايكل كاريذرس... وغيرها الكثير من الأعمال المترجمة.
وتقديرًا لإنجازاته القيّمة في عالم الترجمة، نال الراحل جوائز عديدة، منها مثلًا "جائزة رفاعة الطهطاوي" من المركز القومي للترجمة عام 2018، عن ترجمته كتاب "موجات جديدة في فلسفة التكنولوجيا"، وقد عُرف بانتقاده لقلّة الإنتاجات العربية في مجال الكتب المترجمة نظرًا لما لها من أهمية على مستوى تفاعل الشعوب وتواصلهم.
الترجمة تشكّل الفضاء الحقيقي للتبادل الثقافيّ بين الشعوب
ما يفتح الباب للتساؤل عن واقع الترجمة في وطننا العربي، الأرقام، أسباب تراجعها، تداعيات تقاعسنا عن صناعة الترجمات، وما يترتّب علينا كعرب من أجل تنشيط حركة الترجمة من العربية وإليها.
فالترجمة ليست وسيلة أو أداة لنقل المعارف وتبادلها فحسب، بل هي أعمق من ذلك بكثير، كونها لغة اتصال وتواصل وتحاور بين الناس والشعوب على اختلاف جنسياتهم وثقافاتهم ومعارفهم. وهنا أصل الحكاية وفحواها، وخلاصتها أنّ الترجمة تشكّل الفضاء الحقيقي للتبادل الثقافيّ، تبني الجسور فيما بين الشعوب، لا سيما من غير المتحدثين باللسان نفسه، يسافر من خلالها الناس، ثقافيًا وفكريًا، من عالم إلى آخر، وهدم هذه الجسور يعني أننا نريد أن نعزل أنفسنا كعرب عن فكر وعلوم وثقافة العالم أجمعين.
إذ كيف لنا أن نبني تقدّمًا ما، ونحن غير ملمّين بما توصّل إليه الغير، في هذا المجال أو ذاك؟ فالترجمة هنا هي مصدر المعلومات الدقيق عن الثقافات الأخرى، ما تمّ إنجازه وما تعلّموه من معارف وعلوم ونظريات. وكيف لنا أن نظهر صورة العرب الحقيقية وثقافتهم ونحن لا نترجم أعمالنا؟ وهذا ما يحتّم علينا النظر في واقع الترجمات من العربية وإليها، في المنطقة العربية.
ما يُترجم في الوطن العربي أقل مما يُترجم في دولة أوروبية
ففي قراءة سريعة، لآراء الكتّاب والنقاد والمثقفين، نستخلص وجود شبه إجماع فيما بينهم، على أنّ العرب مقصّرون جدًا على مستوى الترجمة، فهم لا يترجمون إلّا أعدادًا قليلة من الكتب مقارنة بالدول الغربية، ونادرًا ما نشهد على ترجمة مؤلفات ونّصوص عربية إلى لغات أخرى مثل الإنكليزية والفرنسية والإسبانية، والعكس صحيح. وهذا ما تؤكده الأرقام المنشورة، رغم غياب احصاءات رسمية دقيقة واختلاف المتوفر منها حول الأعداد الحقيقية للكتب المترجمة في الوطن العربي.
لكن وبحسب التقارير المنشورة، فإنّ ما يُترجم في كامل بلدان الوطن العربي، حيث يوجد أكثر من 450 مليون نسمة، أقل بكثير مما يُترجم في دولة أوروبية واحدة، وهذا هو الحال في إسبانيا مثلًا والتي يبلغ تعدادها حوالى 47 مليون نسمة وتحتل المراكز الأول من حيث الترجمات.
ووفق قاعدة البيانات الخاصة باليونسكو، فقد تمّ نقل 11500 كتاب فقط إلى اللغة العربية في الفترة الممتدة من 1979 وحتى 2009، وذلك في معظم البلدان الناطقة باللغة العربية، وهو رقم منخفض جدًا مقارنة مع البلدان الأخرى.
مقالات ذات صلة
العربية حقّقت المركز 17 على قائمة اللغات الـ50 المترجَم عنها
نظرة سريعة على آخر منشورات اليونسكو، من خلال فهرس الترجمات المعني بإحصاء الأعمال المترجمة في العالم، تُبيّن أنّ دولة مصر شكلت الحضور العربي الوحيد، بالمركز رقم 48، على قائمة الدول الخمسين المتميّزة في حركة الترجمة من أصل 195 دولة (الأعضاء) لتتصدّر ألمانيا القائمة، تليها إسبانيا ومن ثمّ فرنسا.
ووفق فهرس الترجمات أيضًا، فقد حققت اللغة العربية المركز 29، من أصل خمسين لغة حقّقت تميّزًا كلغات "هدف للترجمة" إليها من اللغات الأخرى، فكانت الألمانية في المركز الأول، وبعدها الفرنسية، والإسبانية ومن ثمّ الإنكليزية. والأخيرة (أيّ الإنكليزية)، تصدّرت قائمة اللغات الأصلية المترجم عنها، تلتها الفرنسية ومن ثم الألمانية وبعدها الروسية، أما العربية فحقّقت المركز 17 بين اللغات الخمسين.
ولا يتوقف الأمر عند مسألة الترجمة وإنما يصل إلى "الكتب المنشورة" أيضًا، إذ تشير معظم الدراسات إلى أنّ نصيب العرب من الكتب منخفض جدًا مقارنةً بالأوروبيين على سبيل المثال، خصوصًا أنّ بعض الدول العربية تعاني غيابًا لافتًا عن تأليف وترجمة الكتب، باستثناء قلّة من الأعمال.
هذه نبّذة سريعة عن الواقع، فماذا عن الأسباب؟. ما هو سبب ركود الترجمة وتراجعها في بلداننا العربية، علمًا أنه تمّت ترجمة كتب عديدة للمصري نجيب محفوظ والسوداني الطيب صالح والفلسطيني غسان كنفاني والشاعر محمود درويش، إلى اللغتين الإنكليزية والفرنسية، ولا يمكن أن ننسى كتاب "ألف ليلة وليلة" الذي لا يزال حاضرًا وبقوة في الغرب.
أسبابٌ بالجملة، ساهمت ولا تزال حتى يومنا هذا، في تراجع نسق الترجمات في الوطن العربي، منها، أنها أصبحت بمثابة "ترف فردي" في كثير من الدول العربية، حيث يؤخذ على المؤسسات الخاصة المعنية بالنشر الإنطلاق في عملها من وجهة نظر تسويقية، ربحية ليس أكثر، فتُغلّب المصالح الربحية والتجارية على البُعد الثقافيّ، لا سيما في ظل غياب الدعم الحكومي للترجمة والمترجمين، وإهمال الشق الثقافيّ عمومًا في البلاد.
تراجع المحتوى قلّل من تأثير الأدب العربي وقابليته للترجمة والانتشار عالميًا
كما يسلط بعض الخبراء الضوء على نقص الحريات والبيئة غير المشجعة للترجمات، كتدخّل السلطات المعنية أحيانًا في محتوى الكتب التي يتمّ ترجمتها، كما تراجع مبيعات الكتب وحركة النشر على العموم، وضعف تمكّن المترجمين من اللغات الأجنبية أو قلّة أعداد المترجمين المتخصّصين من فئة الشباب، جميعها ساهمت في بلورة ما وصلنا إليه في عالمنا العربي.
ولكن الأسوأ، إعتقاد البعض بأنّ أحد أسباب تراجع الترجمات، يعود سببه إلى تراجع محتوى كثير من الكتب العربيّة، على اعتبار أننا لم نعد ننتج إلّا القليل من الكتب المتميّزة في مضمونها، على عكس ما كان سابقًا، وهذا ما قلّل من تأثير الأدب العربي، وقابليته للترجمة والانتشار عالميًا.
هذه العوامل مجتمعة، هي في صلب تراجع "صناعة الترجمة" العربية، وبالتالي أي نية لإعادة تنشيطها والإرتقاء بجودتها، يكون من خلال الإعتراف بدايةً بمحورية الترجمات وأهمية أهدافها في تقدّم الأمم... ووضع خطط استراتيجية على مستوى الدول وتقديم الدعم الحكومي لمثل هذه الأعمال، ونشر الوعي بأهمية الترجمة في بناء الثقافات وتقاطعها مع ثقافات الغير، والعمل تاليًا على تأسبس أكاديميات للترجمة تعمل على تخريج مترجمين عرب متخصّصين... لكي لا نكون أمام تعميق حالة التقهقهر الثقافي ونساهم أكثر فأكثر في عزل أنفسنا بأيدينا.