“الجزائر تطارد اللغة الفرنسية”.. هو عنوانُ مقال نشرته “لوفيغارو” الفرنسية، يُخيَّل لمن يصادفه من الوهلة الأولى أن الأمر يتعلق بإنهاء تعليم لغة المستعمِر السابق نهائيا، لكن بالاطلاع على محتواه يكتشف المرء أنه يعالج قرارا إداريا اتخذته وزارة التربية بشأن مناهج التعليم في المدارس الخاصة.
وغلّفت هذه الصحيفة المحسوبة على اليمين الفرنسي هذا القرار بغلاف إيديولوجي وسياسي، وقدَّمته ضمنيّا على أنه موقف عدائي جديد تجاه لغة فرنسا، رغم أن الأمر يتعلق بقرار داخلي اتخذته وزارة التربية يُجبر المدارس الخاصة على الالتزام بالمنهاج الدراسي، شأنها شأن المؤسسات التعليمية العمومية.
والحقيقة أن هذه الخطوة من الوزارة جاءت لإنهاء حالة من الفوضى داخل مدارس خاصة، كانت الفرنسية لغة التعليم الأولى بها، رغم أن اعتمادها كان بناء على دفتر شروط من أهم بنوده تطبيق مناهج التدريس المعتمدَة في المؤسسات العمومية.
وبالمختصر المفيد، فإنَّه كان على السلطات الجزائرية، وفق “لوفيغارو”، إقرار منهاجين للتدريس في البلاد، الأول رسمي يعكس هوية الجزائر وبنود دستورها باعتماد العربية لغة تعليم، أما الثاني فهو ما يشبه “سوقا سوداء” جديدة للتعليم يُفسَح فيها المجال لتلقين التلاميذ أي لغة في العالم وأي ديانة وحتى المناهج المعتمَدة في فرنسا نفسها والتي ترسِّخ الانحلال مثل مسألة الشذوذ.
ولنفترض جدلا أن من تدافع عنهم هذه الجريدة يمثلون شريحة واسعة في المجتمع الجزائري، فلماذا يتبنى الإعلام المحسوب على اليمين في فرنسا لهجة قاسية تجاه جالية مسلمة هناك يقدَّر عدد أفرادها بالملايين، وهم يعيشون حالة قهر وتضييق غير مسبوقة طالت حتى معتقداتهم؟
وتسوِّق هذه المنابر اليمينية بالدرجة الأولى لأطروحة مفادها أن مبادئ العلمانية في فرنسا مهددة بمظاهر التدين وحتى الهجرة، لتغليف قرارات رسمية تستهدف الجاليات المسلمة حتى في شكل لباس أفرادها، في الوقت الذي تحاول أن تملي على دول أخرى ما يجب أن تفعله عندما يتعلق الأمر بخياراتها الوطنية.
فرنسا الجديدة التي ضاقت ذرعا حتى بأبنائها من الجيلين الثالث والرابع للهجرة، إلى درجة أن الأمم المتحدة دقت ناقوس الخطر بشأن انتشار العنصرية بها، مازالت بعض نخبها تتقمص دور “الوصيّ” على شعوب ودول أخرى من دون مراعاة لمبادئ احترام السيادة والاستقلال.
وكما يقال “إذا عُرف السبب بطل العجب”، لأنه بالرجوع سنوات وحتى عقود إلى الوراء، نجد الإعلام الفرنسي حاضرا بقوة للتعليق وقيادة حملات ضد أي قرار من شأنه التمكين للّغة الرسمية للجمهورية الجزائرية في مختلف المجالات، ومن أبرز تلك المحطات صدور قانون تعميم استعمال اللغة العربية عام 1991، ثم القرارات الأخيرة بإدراج تعليم الإنجليزية في المرحلة الابتدائية، واعتمادها لغة تدريس بالجامعات.
وأصبح يُستشفُّ من مقالات بعض وسائل الإعلام الفرنسية وحتى الكتَّاب والسياسيين في باريس، وجود ما يمكن تسميته “فوبيا” من موجة مناهضة فرنسا في مستعمراتها القديمة، بالنظر إلى ما تشهده القارة السمراء من تحولات كبيرة في هذا الاتجاه.