نحب الحبيب -صلى الله عليه وسلم- الرحمة المهداة؛ ولأنّه أرحم خلق الله بخلق الله، قال الله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾.. أما رحمته بالمؤمنين فكفى وصفا لها قول العليم الخبير سبحانه: ((لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)).
تأتيه امرأة متزوّجة وقعت في الزنا وحملت منه، لتعترف، فيعرض عنها مرّة وأخرى وأخرى، لعلّها تتوب فيما بينها وبين الله حتّى لا يقيم عليها الحدّ، وعندما أصرّت أرجأها حتى تضع مولودها وترضعه، وبعد أن فعلت كلّ ذلك أقام عليها الحدّ واستغفر لها، وقال: “لقد تابت توبة لو قسمت على أهل المدينة لوسعتهم”.. ويأتيه رجل متزوّج قد قارف الزّنا، فيقول له: لعلّك ولعلّك، رجاء أن يتوب بينه وبين الله، لكنّ الرجل أصرّ على الاعتراف وعلى أن يطهّره رسول الله، عند ذاك فقط أقام الشفيق عليه الحدّ.. وأتي مرة برجل رُجم مرات لأنه شرب الخمر، فقال رجل من القوم: اللهم العنه، ما أكثر ما يؤتى به؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “لا تلعنوه، فوالله ما علمت إنه يحب الله ورسوله”.
نحبه لأنه يخاف ويشفق على أمّته من النّار؛ تلا -عليه الصّلاة والسّلام- يوما قول الله -عزّ وجلّ- حكاية لقول إبراهيم -عليه السّلام-: ﴿رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [إبراهيم: 36]، وقول عيسى عليه السَّلام: ﴿إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [المائدة: 118]، فرفع يديه، وقال: “اللَّهُمَّ أُمَّتي أُمَّتِي”، وبكى، فقالَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: “يا جِبْرِيلُ اذْهَبْ إلى مُحَمَّدٍ، ورَبُّكَ أعْلَمُ، فَسَلْهُ ما يُبْكِيكَ؟ فأتاهُ جِبْرِيلُ عليه السَّلامُ، فَسَأَلَهُ فأخْبَرَهُ رَسولُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ- بما قالَ، وهو أعْلَمُ، فقالَ اللَّهُ: “يا جِبْرِيلُ، اذْهَبْ إلى مُحَمَّدٍ، فَقُلْ: إنَّا سَنُرْضِيكَ في أُمَّتِكَ، ولا نَسُوؤكَ”.
نُحبه -صلّى الله عليه وسلّم- لأنه يحبنا ويشتاق إلينا، فقد روى مسلم عن أبي هريرةَ -رضي الله عنه- أنّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أتى المقبرة، فقال: “السَّلَامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ، وَدِدْتُ أَنَّا قَدْ رَأَيْنَا إِخْوَانَنَا) قَالُوا: أَوَلَسْنَا إِخْوَانَكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: (أَنْتُمْ أَصْحَابِي، وَإِخْوَانُنَا الَّذِينَ لَمْ يَأْتُوا بَعْدُ) فَقَالُوا: كَيْفَ تَعْرِفُ مَنْ لَمْ يَأْتِ بَعْدُ مِنْ أُمَّتِكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ فَقَالَ: (أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ رَجُلًا لَهُ خَيْلٌ غُرٌّ مُحَجَّلَةٌ بَيْنَ ظَهْرَيْ خَيْلٍ دُهْمٍ بُهْمٍ أَلَا يَعْرِفُ خَيْلَهُ؟)، قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: (فَإِنَّهُمْ يَأْتُونَ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنَ الْوُضُوءِ، وَأَنَا فَرَطُهُمْ عَلَى الْحَوْضِ أَلَا لَيُذَادَنَّ رِجَالٌ عَنْ حَوْضِي كَمَا يُذَادُ الْبَعِيرُ الضَّالُّ، أُنَادِيهِمْ: أَلَا هَلُمَّ، فَيُقَالُ: إِنَّهُمْ قَدْ بَدَّلُوا بَعْدَكَ، فَأَقُولُ: سُحْقًا سُحْقًا”.
نُحبه، لأنّنا نطمع أن يغفر الله لنا بحبّه ويشفّعه فينا ويجعلنا قريبين منه في الجنّة.. ها هو ثوبان مولى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يأتي حبيبه المصطفى -عليه الصّلاة والسّلام- يوما وقد تغيّر لونه (أي لون ثوبان) يُعرف الحزن في وجهه، فقال له رسول اللّه -صلّى اللَّه عليه وسلّم-: “مَا غَيَّرَ لَوْنَكَ؟”، فقال: يا رسول اللَّه ما بي مرض ولا وجع غير أني إن لم أرك استوحشت وحشة شديدة حتّى ألقاك، ثمّ ذكرت الآخرة فأخاف أن لا أراك لأنّك ترفع مع النّبيّين، وإنّي إن دخلت الجنّة كنت في منزلة أدنى من منزلتك، وإن لم أدخل الجنّة لا أَراك أبدا، فنزلت هذه الآية: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا﴾ [النساء: 69].
نحبه -صلّى الله عليه وسلّم- لأن الجماد أحبه، فكيف لا نحبه نحن؟! لما فقده الجذع الذي كان يخطب عليه قبل اتخاذ المنبر، حنَّ إليه وصاح كما يصيح الصبي، فنزل إليه فاعتنقه، فجعل يهذي كما يهذي الصبي الذي يسكن عند بكائه، فقال الحبيب -صلى الله عليه وسلم-: “لو لم أعتنقه لحنَّ إلى يوم القيامة”.. كان الحسن البصري -رحمه الله- إذا حدث بهذا الحديث بكى، وقال: هذه خشبة تحن إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأنتم أحق أن تشتاقوا إليه.
نحبّه لأنّ القلوب مجبولة على حبّ المتواضعين وهو -عليه الصّلاة والسّلام- سيّد المتواضعين.. يكون بين أهله فيخيط ثوبه ويخصف نعله، ويحلب الشاة ويعلف البعير، ويأكل مع الخادم، وإذا خرج يجلس مع المساكين ويأكل من طعامهم، ويجيب دعوة الفقير.. كان الرّجل يأتي من خارج مكّة والمدينة، يبحث عن النبيّ محمّد -صلّى الله عليه وسلّم- بين النّاس فما يعرفه بين أصحابه، حتى يسأل عنه.. كان يمشي مع الأرملة واليتيم في حاجتهما، وتأتي الجارية الصغيرة فتأخذ بيده.. كان يسمع شكوى المرأة حتّى تتمّ كلامها وتبثّ ما في قلبها.. كان يمازح الغلام الصغير ويسأله عن عصفوره.. يقود الأمّة ويرسل الجيوش، ومع ذلك لم يكن له حجاب ولا حراس، يقول الله تعالى: ((فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ)).
نحبّه، لأنّه أرحم عباد الله بعباد الله.. يحرص على ألا يؤذي أحدا بكلمة أو نظرة: قال أنس بن مالك -رضي الله عنه-: “خدمت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عشر سنين فما قال لي أفٍّ قط، وما قال لشيء صنعته لم صنعته؟ ولا لشيء تركته لم تركته؟ وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أحسن الناس خُلُقًا”.. بل كان حريصا على الرحمة بالحيوان والرفق به: دخل ذات مرة بستاناً لرجل من الأنصار، فإذا فيه جَمَل، فلما رأى الجملُ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- ذرفت عيناه، فأتاه رسول الله -عليه الصّلاة والسّلام- فمسح عليه حتى سكن، فقال: “لمن هذا الجمل؟” فجاء فتى من الأنصار فقال: هو لي يا رسول الله، فقال له: “أفلا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملكك الله إياها؛ فإنه شكا لي أنك تجيعه وتتعبه” (رواه أبو داوود).
كان من شدّة رحمته بأصحابه أنّه يرى الهمّ والحزن والحاجة في وجوههم فيعرفها.. كان -عليه السّلام- مع جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- عائدين من أحد الأسفار، وقد علم النبي –صلى الله عليه وسلم– بزواج جابر رضي الله عنه، فعرض عليه أن يشتري منه بعيره بأربعة دنانير، ولما قدم المدينة أمر النبي –صلى الله عليه وسلم– بلالا بأن يعطي الدنانير لجابر ويزيده، وأن يردّ عليه بعيره.. ورأى مرةً الجوع في وجه أبي هريرة رضي الله عنه، فتبسّم ودعاه إلى إناء فيه لبن، ثم أمره أن يشرب منه، فشرب حتى ارتوى، وظلّ النبي –صلى الله عليه وسلم– يعيد له الإناء حتى قال أبو هريرة رضي الله عنه: “والذي بعثك بالحق ما أجد له مسلكا”.
لهذا ولغيره نحبّ الحبيب صلّى الله عليه وسلم، ووالله لو عرف النّاس أخلاقه ورأوها في المسلمين الآن، ما عاداه عبد منصف.. ثمامة بن أثال الحنفي، كان من سادات اليمامة، وكان يبغض النّبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- لما يسمعه عنه من الكذب.. قدر الله له أن يقع بين أسر المسلمين في السنة 6 هـ، وحينما رأى حسن معاملة النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- وآنس ابتسامته وعطفه وحرصه على إسلام المشركين وشفقته بهم، قال: “يا محمد، والله ما كان على الأرض وجه أبغض إليّ من وجهك، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه كلها”.. وانطلق ليتحدّى قريشا ودخل مكّة ملبيا ومعتمرا، وكان أول معتمر في الإسلام.. وحين التفّ حوله كبراء قريش وقالوا: أصبوت يا ثمامة؟ قال: ما صبوت، ولكني اتبعت خير دين، دين محمد صلى الله عليه وسلم.