و هل السياسة في هذه البلاد إلا لعبة قتال المحاربين بالسيوف الرومان "الغلاجياتير Les Gladiateurs" بينهم و مع غيرهم من السجناء العبيد الذين يسعون إلى نيل صكوك حريتهم بعدما لم يصرعهم الأقوياء؟
و هل السياسة بهذا المنطق إلا ترفا عند المتربعين على عرش النفوذ و دوائر التسيير و قنوات المال و الممسكين بمفاتيح ملاعب ذالك الصراع "الغلادياتوري"،
يحكمون إغلاقه على من أرادوا حتى الموت و يفلتون من حصار جدرانه الطويلة السميكة من طأطأ الرأس و سار جنب الحائط؟
إنهما سؤالين تكمن بين طيات الأجوبة عليهما كل ملامح السياسة المتعارف عليها في فوضوية المشهد و التي يتم تعاطيها ضمن فسيفساء الأحزاب القائمة إسما في معظمها دون كبير تأصيل لفكر أو منهج، و بكل مستوياتها المتفاوتة و تنوع و أبعاد خطاباتها المترنحة، المستنسخة عن بعضها، و تطلعات مؤسسيها و من يقربون إليهم دون سواهم إن وجدوا في الدائرة الأشمل للأطر و المناضلين في حيز المصطلح الحزبي؛ تطلعات و مساع محدودة هي الأخرى في دائرة "الطمعية" المادية الأنانية الضيقة دون رسم أفق لاكتمال النضج البنيوي.
و ليست السياسة بهذا الوجه هي من يستقطب المواطنين برسم ترسيخها في أذهانهم كأداة حتمية للتغيير الإيجابي، و إنما الذي يظهر هو فقط فقاعات ووهم ضلالات تعاطيها في حلتها المستجيبة في العمق لرواسب "السيبة" في كل أبعادها و مضامينها من:
• قبلية فاحشة،
• و طبقية ظالمة،
• و إثنية مضطربة.
و لا تكذب مطلقا التشكيلات القائمة و خلفياتها الفكرية و الاجتماعية هذه الحقيقة المرة رغم دس الرؤوس عنها في رمال و أوحال و مستنقعاتها الآسنة. و إن الذي يبدو كتسييس الأفراد خاضع لتقلب ميزاجية الأرستقراطيين السياسيين، الذين لم يدركهم الإيمان بإيجابيتها إن أحسنت، على رأس هرم الأطر السياسية التي يتفاعلون بداخلها ليس إلا. و إنه لا سبيل لمجتمع هذه البلاد إلى رحاب الوعي السياسي البناء و لا إلى النهضة المنشودة بفعل النضج السياسي لدى نخبها ما لم تربطهم علاقات دائمة في الأفكار والمشاعر والمقاييس والأنظمة، إذ هو معلوم أن النهضة لا تكون أمرا واقعا إلا بما لدى الإنسان و مجتمعه من فكر حول الوطن و المواطن في دائرة العالم الذي هو حوله. فإذا كان الفكر و النهج صحيحين و عاقلين فإن النهضة تأخذ اتجاهها الصحيح و تؤتي ثمارها في التطور و المنعة. وإذا كان الفكر على العكس من ذلك خاطئاً و غير عاقل فإن النهضة تأخذ اتجاها خاطئا يفضي تدريجيا إلى استشراء الفوضى و حكم التخلف. و لا تكون نهضة المجتمع صحيحة إلا إذا سادته أفكارٌ عالية ومشاعر موحدة ومقاييس علمية منطقية، و نظام ينفذها جميعاً استنادا إلى قاعدة فكرية منبثقة من خلفية معتقدية راسخة و روح وطنية عالية.
و جدير بالقول قبل الحكم على مجتمعات هذه البلاد بـ"التسيس"، أنه لا بد من الوقوف على حقيقة ما إذا كانت تتمتع قبلا بالأهلية إلى ذلك من خلال مستوى الوعي و النضج لديها و مدى امتلاك أفرادها ناصية القرار المستقل في المواقف و الانتماء و التوجه إلى تشكيل الجماعات المنسجمة، لأن المجتمعات لا تنهض نهضة صحيحة إلا إذا تفاعل كل أفرادها مع البعض من أجل استيعاب و تبني و إيصال رسالة فكرها الناهض الذي يجب أن ينبثق من عمق الحس و نضج الإدراك الوطنيين من ناحية، و من التشبث بالثوابت الدينية و المنظومة الأخلاقية كخلفية ثابتة و مطلقة كما أسلفنا من جهة أخرى.