التقاصر أوسع للجاهلين مثلنا، و لكن العقل خلق في الإنسان للتوظيف و الاستخدام.
و انطلاقا من ذلك، أنا متأكد أن ربي جل في علاه ليس نسيا و أن له الخلق و الأمر وحده، يعلم ما كان و ما هو كائن و ما سيكون ... و يعلم خصائص الوجود و ما هو موجود ، قوة و فعلا، من خير و شر .
و قد جاء في الآية 90، من سورة المائدة، قوله تعالى 《 يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر و المسير و الأنصاب و الأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون》ثم أتبعها مباشرة في ذات السورة بالآية الموالية 91 بقوله تعالى 《 إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة و البغضاء في الخمر و الميسر و يصدكم عن ذكر الله و عن الصلاة فهل أنتم منتهون 》 صدق الله العظيم. و ففي الآية (90 ) بيان للمحرمات من هذه الأعمال الاجتماعية التي كان المجتمع العربي الجاهلي يتعاطاها جماعات و أفرادا. و في الآية (91) تعليل بالتفصيل، بخلاف العادة في ذكر الأحكام الشرعية في القرآن، للأسباب الشرعية التي كانت سببا في تحريم هذه المناشط : العداوة و البغضاء بين المسلمين و صدهم عن ذكر الله و عن الصلاة. و في مواقع أخرى بين لنا القرآن صراحة جملة المحرمات من المأكولات و من أنواع السلوك و الأقوال... و لم يذكر من بينها، في كلها، الغناء و لا العزف( الموسيقى) ، كما لم يأت نص صريح من الرسول المعصوم و المبلغ وحده عن الله يحرم الترنم بالصوت أو الضرب على طبل و العود ! فمن أين جاءت هذه القسوة في الحكم على الصوت الجميل و العزف المحرك لأوتار القلوب !
عند العودة لبعض الفقهاء الموريتانيين الذين يشددون النكير على الطرب نجد أن الأصل في ذلك هو أحد أمرين: إما أنهم ينحدرون من أوساط اجتماعية لا صلة لهم مطلقا بإيكّاون لاعتبارات تتعلق بالعادات و التقاليد التي تنشأ داخلها هؤلاء الفقهاء عندما كانوا أطفالا؛ مما ينشأ منه نقص معيب في الدراية بموضوع الموسيقى و الغناء ؛ فهم يسمعون عن إيكّاون و لم يعرفوهم عن قرب. و العامل الثاني هو ما يصاحب اللهو و الطرب في العادة من اختلاط بين الرجال و النساء. لكن عند فحص العاملين نجد أن العامل الأول عامل عادات و تقاليد و جهل بعالم الطرب ؛ و هذا لا يصلح سببا للتحريم في شرع الله. و أما عامل الاختلاط فمناط حكم التحريم فيه هو الاختلاط الفاحش الذي يؤدي للأعمال و السلوك و الألفاظ الواقعة في دائرة التحريم شرعا. إلا أن الاختلاط في ذاته ليس محرما. فالرجال و النساء المسلمون يختلطون بالساحات العامة و في باحات المساجد و في صلوات الأعياد و يختلطون في الشوارع العامة و في الطائرات و الحافلات العمومية ... و يختلطون في الحج بباحة المسجد الحرام و على صعيد عرفة و عند رمي الجمرات... و غير ذلك من أماكن المشاعر!
و في بعض الأوساط الاجتماعية من مجتمعنا التي لا صلة لهم بأوساط إيكّاون ، فإن الفقهاء ، من هذه الأوساط، يعلمون أن مناسبات الزواج في مجتمنا عموما- حتى في أوساطهم هم أنفسهم، تشهد، ضمن تقاليده الترويحية- اختلاطا كبيرا بين الشباب ، ذكورا و إناثا، و تشهد ألفاظا باذخة في الفحش و الخروج عن الشرع من دون أن يكون لإيكّاون أي دور في ذلك !
فإذا أضفنا إلى ما سبق أن الفطرة الإنسانية ضمنت الاستمتاع بالصوت الحسن و العزف الجميل ثم أضفنا ما يتصف به المطربون الموريتانيون ، في العموم كسائر فئات مجتمعهم، من فضل و عبادة و حسن خلق و طيبة نفس و ابتعاد عن فاحش القول و خشن السلوك ، فإن القسوة عليهم من دون بقية المجتمع تنطوي على موقف خاطئ و حكم قيمة مرفوض؛ إذ لم يرد تحريم في شرع الله يصادم فطرة الإنسان؛ كما لم يكن إيكّاون يوما رسلا للفحشاء و المنكر في هذا المجتمع !