في الأيام الماضية، عاش إخواننا وجيراننا في المغرب وليبيا فاجعتين مروّعتين تبكي لهما القلوب دما.. زلزال مدمّر في المغرب، وفيضانات عارمة في ليبيا.. ضحاياهما بالآلاف في البلدين المسلمين.. ولا شكّ أنّ ما حلّ بإخواننا وجيراننا هو ابتلاء لهم، وموعظة لنا نحن الذين عايشنا فواجع مماثلة ذقنا معها ألم الصّدمة والفجأة ومرارة الفقد.
في المغرب، زلزال قاربت شدّته 7 درجات على سلّم ريشتر، ضرب مناطق وسط البلاد، حيث القرى والمداشر المحرومة، في وقت أوى فيه النّاس إلى بيوتهم، وفي ساعة ما كان أحد يتوقّع أن يقطع هدوءها زلزال بكلّ تلك القوة.. ما هي إلا ثوان معدودات، حتى سويت المباني بالأرض، بل إنّ هناك قرى اختفت من على الخريطة، مثل قرية “تنزيرت” القريبة من مركز الزلزال.. ضحايا الزلزال بلغ تعدادهم 3000 ضحية، نحسبهم عند الله من شهداء الآخرة.
أمّا في ليبيا، فقد ضرب إعصار دانيال الساحل الشرقي من ليبيا، ما أدى إلى انهيار سدين رئيسين بمدينة درنة، وهو ما سمح بتدفّق كميات هائلة من المياه جرفت المدينة.. فيضانات عارمة قلّ أن تشهد البشرية لها نظيرا غطّت المدينة بأكملها، حتّى إنّ المياه وصلت إلى الأدوار العلوية من المبان العالية، وصارت السيارات وجثث الغرقى تتقاذفها المياه في كلّ مكان، وقد بلغ تعداد الغرقى أكثر من 5300 غريق، نحسبهم عند الله من شهداء الآخرة.
فاجعتان حملتا معهما دروسا وعبرا ينبغي أن تتحرّك لها القلوب، ولا ينبغي أن تلفّ سريعا في دفاتر الماضي.. الله تبارك وتعالى يرسل آياته متى يشاء وعلى من يشاء، ولا يشترط في آيات الله ونُذره أن تنزل بالظّالمين والكافرين؛ فقد تنزل بالمقهورين والمظلومين، اصطفاءً لهم وموعظة لغيرهم.. الله -تعالى- يرسل آياته ليخوّف عباده بأسه وقوته، وليدرك العباد ضعفهم وقلة حيلتهم أمام عظمة الخالق وقدرته: ((وَمَا نُرْسِلُ بِالْآَيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا)).
عندما ننشغل بالنقاشات الجانبية وننسى الاعتبار!
من دروس هذه المحنة التي مرّت بإخواننا: أنّه لا ينبغي لنا أبدا أن ننشغل بالنقاشات التي لا تنفع، عن الاعتبار بهذه القوارع.. الزلازل والفيضانات آيات ونذر يرسلها الله تعالى على عباده، ليخرج الدنيا من قلوبهم، وليذكّرهم بالدار الباقية، وليصطفي منهم شهداء عنده.. الزلازل والفيضانات ينبغي أن تتحرّك لها قلوبنا، وينبغي أن تجعلنا نتوب إلى الله ونصلح أحوالنا، ويكفّ بعضنا عن ظلم بعض، ونردّ المظالم إلى أصحابها.. ولا ينبغي أبدا أن ننشغل بالنقاشات التي تمتلئ بها مواقع التواصل.. في كلّ مرّة تنزل بلية هنا أو هناك، يشغلنا الشيطان بالنقاش حول ما إن كانت تلك البلية عقوبة أم ابتلاءً، وحول ما إن كانت بسبب المعاصي أم بأسباب جيولوجية؟
هذه الابتلاءات، هي لا شكّ عقوبة للظّالمين والمعتدين والمتعدّين لحدود الله السّاعين في الأرض بالفساد، وهي كذلك إنذار للعصاة والمذنبين، وابتلاء للصالحين والطائعين يرفع الله بها درجاتهم ويصطفي بها منهم شهداء.. فمن يصابون بهذه الآيات ليسوا سواء، والتعميم لا يصحّ.
العافية نعمة.. والبلاء لا مناص منه
ومن دروس هذه المحنة -كذلك- أنّ هذه الحياة الدّنيا دار بلاء وعناء، ولا ينبغي للعبد المؤمن أن ينسى هذه الحقيقة الراسخة، ويتوقّع عافية دائمة ورزقا وفيرا لا ينقطع.. قد يطول زمن العافية، لكنّ البلاء لا مناص من قدومه وحلوله، لأنّ الحنّان المنّان -سبحانه- لا يحبّ لقلوب عباده أن تركن إلى الحياة الدّنيا وترضى بها وتنسى الحياة الباقية.. والعبد المؤمن يعلم أنّ البلاء من لوازم هذه الدّار الفانية، لذلك فهو يستعدّ له ويهيّئ نفسه له، حتّى يكون فيه من الثابتين، والثبات في البلاء نعمة عظيمة، فكم من عبد ألف العافية وتوالت عليه السنوات وهو يتقلب في نعم الله، فنسي المنعم سبحانه، وما عاد يحرّك لسانه بذكر ولا شكر، حتّى إذا نزل به البلاء وفقدَ نعمة ممن النعم التي لم يشكرها، تضجّر وربّما اعترض على خالقه: ((وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا)).
ورغم أنّ البلاء من لوازم الحياة الدّنيا إلا أنّ العبد المؤمن ينبغي له أن يسأل الله العافية دائما وأبدا، ويشكر الله -تعالى- على نعمه بالليل والنهار ويسأله سبحانه دوامها.. وقد كان حبيبنا -عليه الصلاة والسلام- يدعو في الصباح والمساء قائلا: “اللهم إني أسألك العافيةَ في الدنيا والآخرة، اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودُنياي وأهلي ومالي، اللهم استر عوراتي، وآمن روعاتي، اللهم احفظني من بين يدي، ومن خلفي، وعن يميني، وعن شمالي، ومن فوقي، وأعوذ بعظمتك أن أُغتال من تحتي”.
ونحن نرى ما حلّ بإخواننا من حولنا، نعود بقلوبنا وعقولنا وأرواحنا للنظر إلى نعمة العافية التي نمتّع بها.. نعمة عظيمة عندما تمرّ بالعبد الأيام والشهور والأعوام، وهو يسعى على أرض مذلّلة هادئة مستقرة، رزقه مبذول لا يجوع ولا يعرى.. أهله مجتمعون حوله يضحكون ويمرحون.. يدرك العبد قدر هذه النعمة حينما ينظر من حوله، فيرى من سلبوا نعمة العافية فجأة، حيث باتوا آمنين معافين واستيقظوا على بلاء ومحنة؛ بمرض طارئ، أو خسارة مفاجئة، أو بفقد عزيز.. يرى عبادا لله يأوون إلى بيوتهم ثمّ يخرجون منها وهم يصرخون على إثر زلزال أو فيضان يأتيهم بغتة، وما هو إلا وقت يسير حتّى تهدّم البيوت وتضيع الممتلكات ويفقد الأحبّة.
هذا أحد إخواننا الناجين من زلزال المغرب. “خالد جعا” كهل في الخمسين من عمره، فقد أسرته كاملة في الزلزال، 11 فردا قضوا في الزلزال وماتوا تحت الأنقاض، ولم يبق إلا خالد الذي كان في غرفة تهدّم شطرها وبقي شطرها الآخر.. فقد في الزلزال والديه المسنين في الثمانين من عمرهما، وزوجته وابنتيه، وأخته، وأخاه وزوجة أخيه، و3 من أبناء أخيه.. يروي بداية المأساة فيقول: “تناولنا وجبة العشاء وبدأنا نستعد للنوم، وفجأة شعرنا بالبيت يتحرك ويهتز بشدة، ثم وقع علينا… لما هدأ الزّلزال ذهبت أبحث عن أفراد أسرتي، أشعلت مصباح هاتفي المحمول لكني لم أكن أرى شيئا من كثافة الغبار. انتظرت مدة في مكاني حتى انقشع الغبار، وبدأت أنادي على بناتي وزوجتي وأبي وأمي، لكن لم أكن أسمع أي رد”، ثمّ يعقّب خالد قائلا: “لا شيء بيدي أفعله. اختارهم الله إلى جواره، ولا خيار لي سوى الصبر والإيمان بالله، بكينا بما فيه الكفاية، وبصدق جفت دموعي ولم تعد تخرج، أبكي بكاء جافا، وعزائي الوحيد أنهم إن شاء الله شهداء مضوا إلى ربهم”، ويختم حديثه قائلا: “بعد هذه الفاجعة أدعو الناس إلى المحبة والتسامح والتغافر والتعاون، هذه الدنيا لا قيمة لها، ويمكن في أي لحظة أن تصعد أرواحنا إلى السماء.. لا قيمة لهذه الدنيا إلا بما فيها من خير، نحن كلنا إخوة وفي نهاية المطاف سنموت، ولست الوحيد المتضرر، وليست فقط قريتنا هي التي دمرت، ونرجو ممن استطاع أن يعين المنكوبين بشيء فليبادر، فهم الآن في العراء، ويؤرقهم مصيرهم المجهول”.
هناك المئات من القصص القريبة من قصّة خالد، جرت أحداثها في المغرب وفي ليبيا.. وهي قصص تحرّك قلوبنا بالشفقة لحال إخواننا وتحرّك ألسنتنا بالدّعاء لهم، وتجعلنا نرجع إلى أنفسنا لنحمد الله على ما نحن فيه من عافية، ونتذكّر كم هي حقيرة هذه الحياة الدّنيا، وكم هي حقيرة هذه البيوت وهذه الأملاك التي نعلّق قلوبنا بها، ويخاصم بعضنا بعضا لأجلها.. يقضي العبد عقودا من عمره وهو يخاصم إخوته وجيرانه لأجل مسكن يبنيه ويعليه ويرفعه ويزيّنه ويؤثّثه، ثمّ في النهاية يصير ركاما وأثرا بعد عين إثر زلزال لا يدوم إلا ثوان معدودات، وربّما يردم فيه ويصير له قبرا، بعد أن كان يخطّط لأن يجعله قصرا.. نعم، يجوز للعبد أن يبني ما يشاء ويعلي كيف يشاء، لكن بشرط أن يحرص على الحلال، وعلى ألا يظلم إخوانه وجيرانه شبرا ولا يؤذيهم بباب أو نافذة أو شرفة.. يجوز للعبد أن يسعى ليظفر بسكن، لكن لا يجوز له أن يأخذ ما ليس له بحقّ، يستغلّ معارفه ووساطاته ليأخذ سكنا لا يستحقّه، أو يسعى بمنطق القوة والفوضى ليستفيد من سكن وهناك من هو أولى منه.. ما يدريه لعلّ هذا السّكن الذي أخذه في الحرام سيكون قبرا له أو لابنه أو قريبه، إثر زلزال لم يكن يحسب له حسابا.