فرنسا بين طانجا وبازوم /عبد الرزاق بوالقمح كاتب صحفي

10 أغسطس, 2023 - 09:55
عبد الرزاق بوالقمح كاتب صحفي، رئيس تحرير الشروق

يقال إن دبلوماسية أيِّ دولة تجاه مختلف القضايا هي محاولة التوفيق بين المبادئ والمصالح، لكن المتابِع لما يحدث في القارة الإفريقية منذ عقود، يكتشف أن احترام سيادة الدول والشعوب ومبادئ القانون الدولي هي آخرُ شيء تلتفت إليه القوى الكبرى في التعامل مع قضايا المنطقة وأزماتها.

وأكّد انقلاب عسكر النيجر على الرئيس محمد بازوم مرة أخرى هذا الواقع المرّ في القارة، ورغم أن المنطقة لها تاريخ طويل مع الانقلابات، الناعمة منها والخشنة، إلا أن الجميع وقف هذه المرة على ازدواجية في المعايير في تعامل قوى خارجية وفي مقدمتها فرنسا مع الأزمة.

النيجر التي شهدت أربعة انقلابات عسكرية منذ استقلالها إلى اليوم، كان الموقف الفرنسي فيها حاسما أكثر حتى من الشارع، ولكن الاختلاف الوحيد هذه المرة أن باريس اكتشفت لأول مرة “مبادئ الديمقراطية” و”الاعتداء على الدستور”، لأن هذا الموقف يتناغم ربما مع مصالحها.

ودليل هذا الطرح أن فرنسا نفسها وقفت موقف المتفرج على انقلاب عسكري أطاح عام 2010 بالرئيس الراحل مامادو طانجا، وهو موقفٌ فسَّره محللون بمحاولة الأخير التفاوض مع باريس حول طريقة استغلال ثروات بلاده وعلى رأسها اليورانيوم بعد سكوته طيلة سنوات حكمه الأولى عن الملف.

وما يقال عن باريس يمكن إسقاطه على الموقف الحازم الذي أبدته حليفتُها في المنطقة مجموعة غرب إفريقيا (إيكواس) تجاه الانقلاب في النيجر والذي وصل إلى درجة قرع طبول الحرب من أجل إعادة الرئيس محمد بازوم إلى الحكم.

لكنَّ هذه المنظمة غضّت الطرف سابقا عن انقلابات “ناعمة” داخل دولها، لا تختلف كثيرا عن السطو على الحكم باستعمال القوة العسكرية، بعد لجوء رؤساء إلى تعديل دساتير للبقاء في الحكم مدى الحياة، وكادت هذه الخطوة أن تُدخل بلدانهم في أزمات داخلية عميقة، والبحث عن سبب هذا الموقف سيقود المتابِع إلى نتيجة واحدة وهي أن باريس أغمضت عينيها عن المسألة كون هؤلاء القادة لا يشكلون خطرا على مصالحها.

وأظهر انقلاب النيجر أن أدوات فرنسا في ضمان التحكم في رقاب شعوب مستعمراتها السابقة طيلة عقود، أصبح مفعولها عكسيا اليوم، وهي تشاهد مناطق نفوذها وما يسمّى “حدائقها الخلفية” تتساقط تباعا مدعومة بتنامي مدّ مناهضة النفوذ الفرنسي وسط الشارع الإفريقي، كما أن دخول لاعبين دوليين جدد إلى الحلبة جعل الأجيال الجديدة من قادة الجيوش والنخب والفعاليات السياسية ترى أن الانعتاق من حبال فرنسا لم يعد مستحيلا بوجود دعم خارجي من قوى أخرى.

ويبدو أن فرنسا تجني حاليا ثمار عقودٍ من استنزاف خيرات المنطقة، وفكر استعلائي وأبوي في التعامل مع شعوب القارة وأنظمتها، في وقت بقيت هذه البلدان غارقة في الجهل والفقر والنزاعات، لتتحول أخيرا إلى أرض خصبة للجماعات الإرهابية والجريمة المنظمة، وهي آفاتٌ أصبح أيضا من الصعب إقناع نخب المنطقة أن ظهورها معزولٌ عن سياسات الهيمنة وتوفير غطاء جديد لنهب ثروات هذه الشعوب عبر القواعد العسكرية.

والحديث عن ضرورة استعادة هذه الشعوب لسيادتها وأدوات تحديد مصيرها، دفع البعض إلى الإشادة بهذه الانقلابات العسكرية وإزاحة من يسمونهم قادة موالين لفرنسا، رغم مخاطر هذه المغامرات التي تجعل المنطقة مستقبلا تفرِّخ تجارب استعمال القوة في الوصول إلى الحكم، وما يعنيه ذلك من مخاطر الحروب الأهلية وعدم الاستقرار وبقاء هذه البلدان ساحة لصراعات دولية بالوكالة، والتي من نتائجها الحتمية أن تصبح التنميةُ آخر الأولويات ومن ثمّ العودة إلى نقطة الصفر في كل مرة.