ذكريات حاج/ من عرفات إلى مزدلفة /الشيخ ولد بلعمش رحمه الله

27 يونيو, 2023 - 18:05
صورة من المرحوم الشاعر الشيخ ولد بلعمش في تلك الحجة بعد تحلل من الاحرام

من عرفات إلى مزدلفة /الشيخ ولد بلعمش رحمه الله
أسفر صبح يوم عرفة في تلك الحجة بالشوق ورقت فيه القلوب والأفئدة واستعجل الناس لحظات العتق من النار 
كنا مجموعة من الحجيج اختلفت قبائلهم ومناطقهم و أعمارهم و مستوياتهم لكن وحدتهم كلمة لا إله إلا الله محمد رسول الله و يا لجمال كلمة التوحيد و نقائها إنها نفي للشرك أي شرك تقديسا أو عبادة أو خوفا أو طمعا وهي الكلمة التي نعيش أعمارنا كلها من أجل تحقيقها بالفعل لا بالقول وحده فحيثما أحببت غير الله فاخش أن تشرك بحب الله حبا و حيثما تهيبت الأمر تعظيما لقدر مخلوق فاخش أن تشرك بتعظيم الله تعظيما .. إنها إحساس داخلي و حياة نعيشها ..لا محاضرة أو نقاش بين مدارس المسلمين .. إنها فهم و ذوق .. إنها حماس و إحساس .. إنها شعار و شعور .. إنها حقيقة التوحيد الخالص ... ألا لله الدين الخالص 
أدنوا إلينا الحافلات ونادانا صديقي سليل العلماء عبد الودود ول الرباني صاحب وكالة شنقيط للسفريات التي سعدت باسمها و باختيارها أن هلموا بالركوب 
جلسنا على المقاعد كانت العيون ساهمة فهي على موعد مع نسمات الرحمة و ظلال السكينة .. كان سير الحافلة زحفا ولعله كان يوما عشت فيه شجون صاحب بني عذرة الأطهار
أسرب القطا هل من معير جناحه *** لعلي إلى من قد هويت أطير 
الملايين أممت عرفات و من خلفها المليار مسلم ينظر إليها سائلا مولاه القبول لها و السلامة و الفوز بالمطلوب ..و خافقا قلبه على أمل الفوز بسعادة هذه اللحظات مرة أخرى أو لأول مرة ..
تحقق حلمي القديم و هو أن الإنسان يجب أن يكون مساويا في عيون الناس لأخيه الإنسان فلا عبرة بالثقافة و لا المال أو الجاه و النسب.. فكونه إنسانا ذلك يكفي .. نحن ولدنا متساوين ... و في الدولة التي أحلم بها و أعرف أنها متعذرة التحقيق علينا أن نعيش كذلك ..
رمى الجميع صولجان الكبر والاعتداد بالنفس وتواضعوا لله. ألا سحقا للمتكبرين.
كان زينا الموحد أكفانا بيضاء وكنت أول ما ارتديتها عند الإحرام أنشدت قائلا 
ولبست أكفاني هنالك طائعا *** أولست ألبسها غدا إكراها 
حين وصلنا الموقف العظيم كان المشهد حشرا وتصورت نفسي هناك يوم القيامة لا أخ ولا قريب ولا صديق و لا جمهور. لن ينفعك الشعر اليوم و لا ما يقولون حقا أو مجاملين. أين المفر. احسست بذنبي وما اقترفت في حياتي من زلل وخطايا وأدركت أنه لا ملجأ من الله إلا إليه. وكنت كلما التفت إلى الباكين من حولي لمت نفسي وقلت يا شيخ ما أجهلك. كان عليك أن تكون أكثر حزنا وندما. وايم الله إنك لجدير بالبكاء على نفسك. وبين تلك التأوهات حينا والذكرى أحيانا ثمة طيف من الرجاء يسري في القلب. كان بنو هذه الصحراء ذلك اليوم بوجوه جميلة كنت أراهم أقمارا متلألئة. سامح الله الذين يقولون '' الدخن'' ما أظلمهم.
كنا مرهقين بعض الشيء لكن أرواحنا مشرقة وقلوبنا صافية. ما أضعف كيد الشيطان. ينصب حبائله كل هذه السنين حتى إذا هبت نفحة ربانية رأيته ولى القهقرى. و إن أوهن البيوت لبيت العنكبوت .
تقسم الناس في ظل الخيام مجموعات وكانت أحاديث الناس ذكرا. كم أعجبني المجتهدون يومها ... للجدية دائما أهلها وهم الفائزون غالبا.
حين حضر الشيخ الددو لإلقاء خطبته كنت بين الجموع المنصتة إليه كان الرجل يفيض علينا من علمه الغزير ويذكرنا بالنعمة التي نحن فيها ... ذرفت الأعين وتعالى النشيج و حاولت أن أتصور الأنبياء في حجهم و نقلتني كلماته إلى تصور مشهد يوم الجمع.
بعد أن صلينا الظهر خطرت بي فكرة أن أتسلق سفح الجبل. كنت مسندا ظهري إلى صخرة عظيمة بين اقوام لا رابط بينهم إلا هذا الدين. كانت الأيدي ممدودة إلى السماء والأدعية تتصاعد بكل اللغات. إن الله هو من جعل اختلاف الألسن آية ويعلم ما في الصدور.
عندما نزلت ورجعت إلى قومي كان الوقت بدأ في النفاد وعلينا أن نسرع إلى مزدلفة لكن حين هممت بالركوب مع رفقتي افتقدت هاتفي ورجعت مسرعا للبحث عنه لأعود وقد غادرت الحافلة وضاعت في الزحام ...
كنت لم أستفد من رخصة المحفظة المربوطة بحزام على لباس الإحرام و هو اجتهاد ندمت عليه و أظهر لي أنني لم أوت علما .. إذ أضمرت في نفسي أنها ما دامت رخصة فعلي أن أودع نقودي لأحد المستفيدين منها من الأصحاب المرافقين فآخذ منها كلما احتجت وأظل في مأمن من الخطأ ..لكن هاهم قد ذهبوا عنك فما أنت فاعل .. كان ذلك فرعا من إشكالات لباس الإحرام التي كنت أطرحها على الداعية الفقيه ول فتى الذي شرفت بصحبته في تلك الرحلة ... كان يبتسم حين ألح عليه في أسئلتي عن أفضل طريق آمن لارتداء لباس إحرام دون الخشية من سقوطه و لقد طمأنني أكثر من مرة و حين جربت عرفت أنه على حق .. كان يستنشدني شعرا و كنت أقول في نفسي إنه جمع الكثير من الحسنات في حياته فحق له أن يستمع إلى الشعر و ينشده أما أنت فليتك تؤجل الشعر الآن ..
بحثت عن طريق المشاة ... كانت لوحة أمامي توضح أن مزدلفة تبعد أكثر من ستة كيلومترات و هكذا أسرعت الخطى في الدرب الطويل ... كانت جموع البشر السائرة من حولي تزيدني تأملا و كان سيري في تلك الأرض الجبلية يعيدني إلى مشاهد طفولتي أيام كنا نسير بين جبال في آدرار تتلاقى ظلالها كل مساء .
وصلت المشعر الحرام و بمسجده صليت كسائر الواصلين مثلي المغرب و العشاء جمعا و قصرت الأخير .. إن الله شرع هذا الدين لنا و كل حين يمكن أن نفهم أنه يريد بنا اليسر و لا يريد بنا العسر .
كان المبيت بمزدلفة و كانت جموع الحجيج في العراء تفترش الأرض و تلتحف السماء ضارعة إلى الله و هي بين شعورين ..
يا طيب مشعرك الحرام و ليلة **** ألق الرجا و اللهفة اقتسماها 
من الصعب على هذا الشنقيطي أن يهتدي إلى قومه لكنه مصر .. حتى الطير أكثر تحليقا و سرورا في سربه ..
مشيت .. مشيت .. و بعد حين وجدتهم .. ها هم أخيرا .. كنا نبحث عن الحصى لنؤمن الحاجة منه عند الرمي .. 
تلك ذكريات سطرها القلم المشتاق الخائف من أن الفرصة قد لا تتكرر و الراجي فضل ربه لنفسه و جميع المسلمين .
حين رأيتهم اليوم كانت لبيتي الأعشى سيطرة كاملة على وجداني فما أصدقه
إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى *** و لاقيت بعد الموت من قد تزودا
ندمت على ألا تكون كمثله *** و أنك لم ترصد كما كان أرصدا 
رباه لا تعذبنا فإنك علينا قادر ..
------
ا

إضافة تعليق جديد