حول الاحتفال بالمولد النبوي الشريف - مقال للسيد محمد علوي مالكي ( رحمه الله )

14 أكتوبر, 2021 - 00:29

كثر الكلام عن حكم الاحتفال بالمولد النبوي , و ما كنت أود أن أكتب شيئاً في هذا الموضوع , و ذالك لأن ما شغل ذهني و ذهن العقلاء من المسلمين اليوم أكبر من هذه القضية الجانبية التي صار الكلام عنها أشبه ما يكون بالحولية التي تقرأ في كل موسم و تنشر في كل عام حتى مل الناس سماع مثل هذا الكلام .
لكن لما أحب كثير من الإخوان أن يعرفوا رأي بالخصوص في هذا المجال , و خوفاً من أن يكون ذالك من كتم العلم , أقدمت على المشاركة في الكتابة عن هذا الموضوع سائلاً المولى عز و جل أن يلهم الجميع الصواب آمين .

و قبل أن أسرد الأدلة على جواز الاحتفال بالمولد الشريف و الاجتماع عليه أحب أن أبين المسائل الآتية :
الأولى : أننا نقول بجواز الاحتفال بالمولد النبوي الشريف و الاجتماع لسماع سيرته و الصلاة و السلام عليه و سماع المدائح التي تقال في حقه , و إطعام الطعام , و إدخال السرور على قلوب الأمة .

الثانية : أننا لا نقول بسنية الاحتفال بالمولد المذكور في ليلة مخصوصة , بل من اعتقد ذالك فقد ابتدع في الدين , لأن ذكره صلى الله عليه و سلم و التعلق به يجب أن يكون في كل حين , و يجب أن تمتلئ به النفوس .
نعم إن في شهر ولادته يكون الداعي أقوى لإقبال الناس و اجتماعهم و شعورهم الفياض بارتباط الزمان بعضه ببعض , فيتذكرون بالحاضر الماضي و ينتقلون من الشاهد إلى الغائب .

الثالثة : أن هذه الاجتماعات هي وسيلة كبرى للدعوة إلى الله , و هي فرصة ذهبية ينبغي أن لا تفوت .
بل يجب على الدعاة و العلماء أن يذكروا الأمة بالنبي صلى الله عليه و سلم بأخلاقه و آدابه و أحواله و سيرته و معاملته و عبادته .
و أن ينصحوهم و يرشدوهم إلى الخير و الفلاح و يحذروهم من البلاء و البدع و الشر و الفتن , و إننا دائماً بفضل الله ندعو إلى ذالك و نشارك في ذالك و نقول للناس : (( ليس المقصود من هذه الاجتماعات مجرد الاجتماعات و المظاهر , بل إن هذه وسيلة شريفة إلى غاية شريفة و هي كذا و كذا , و من لم يستفد شيئاً لدينه فهو محروم من خيرات المولد الشريف )) .

أدلة جواز الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه و سلم :

الأول : إن الاحتفال بالمولد النبوي الشريف تعبير عن الفرح و السرور بالمصطفى صلى الله عليه و سلم , و قد انتفع به الكافر .
فقد جاء في البخاري أنه يخفف عن أبي لهب كل يوم الإثنين بسبب عتقه لثويبة جاريته لما بشرته بولادة المصطفى صلى الله عليه و سلم .
و يقول في ذالك الحافظ شمس الدين محمد بن ناصر الدين الدمشقي :

إذا كان هذا كافراً جاء ذمه ** بتبت يداه في الجحيم مخلداً
أتى أنه في يوم الإثنين دائماً ** يُخفف عنه للسرور بأحمدا
فما الظن بالعبد الذي كان عمره ** بأحمد مسروراً و مات موحداً

الثاني : أنه صلى الله عليه و سلم كان يعظم يوم مولده , و يشكر الله تعالى فيه على نعمته الكبرى عليه , و تفضله عليه بالوجود لهذا الوجود , إذ سعد به كل موجود , و كان يعبر عن ذالك التعظيم بالصيام كما جاء في الحديث عن أب قتادة : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم سئل عن صوم يوم الإثنين ؟ فقال : (( فيه ولدت , و فيه أنزل علي )) رواه مسلم في الصحيح في كتاب الصيام .
و هذا في معنى الاحتفال به إلا أن الصورة مختلفة , و لكن المعنى موجود سواء كان ذالك بصيام أو إطعام طعام , أو اجتماع على ذكر أو صلاة على النبي صلى الله عليه و سلم , أو سماع شمائله الشريفة .

الثالث : أن الفرح به صلى الله عليه و سلم مطلوب بأمر القرآن من قوله تعالى : {قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ } (58) سورة يونس . فالله تعالى أمرنا أن نفرح بالرحمة , و النبي صلى الله عليه و سلم أعظم رحمة قال الله تعالى : {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } (107) سورة الأنبياء.
الرابع : أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يلاحظ ارتباط الزمان بالحوادث الدينية العظمى التي مضت و انقضت , فإذا جاء زمان الذي وقعت فيه كان فرصة لنذكرها , و تعظيم يومها , لأجلها و لأنه ظرف لها .
و قد أصل صلى الله عليه و سلم هذه القاعدة بنفسه كما صرح في الحديث أنه صلى الله عليه و سلم : لما وصل إلى المدينة و رأى اليهود يصومون يوم عاشوراء سأل عن ذلك فقيل له : إنهم يصومون لأن الله نجى نبيهم و أغرق عدوهم فهم يصومونه شكراً لله على هذه النعمة , فقال صلى الله عليه و سلم : نحن أولى بموسى منكم فصامه و أمر بصيامه .

الخامس : أن الاحتفال بالمولد لم يكن في عهده صلى الله عليه و سلم , فهو بدعة , و لكنها حسنة لاندراجها تحت الأدلة الشرعية و القواعد الكلية , فهي بدعة باعتبار هيئتها الاجتماعية , لا باعتبار أفرادها لوجود أفرادها في العهد النبوي كما سنعلم ذلك تطبيقاً إن شاء الله .

السادس : أن المولد الشريف يبعث على الصلاة و السلام المطلوبين بقوله تعالى : {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (56) سورة الأحزاب
و ما كان يبعث على المطلوب شرعاً فهو مطلوب شرعاً , فكم للصلاة عليه من فوائد نبوية , و إمدادات محمدية , يسجد القلم في محراب البيان عن تعداد آثارها و مظاهر أنوارها .

السابع : أن المولد الشريف , يشمل على ذكر مولده الشريف و معجزاته و التعريف به , أولسنا مأمورين بمعرفته و مطالبين بالاقتداء به , و التأسي بأعماله , و الإيمان بمعجزاته و التصديق بآياته , و كتب المولد تؤدي هذا المعنى تماماً .

الثامن : التعرض لمكافأته بأداء بعض ما يجب له علينا ببيان أوصافه الكاملة , و أخلاقه الفاضلة , و قد كان الشعراء يفدون إليه صلى الله عليه و سلم بالقصائد و يرضي عملهم و يجزيهم على ذلك بالطيبات و الصلات , فإذا كان يرضى عمن مدحه , فكيف لا يرضى عمن جمع شمائله الشريفة , ففي ذلك التقرب له عليه السلام , باستجلاب محبته ورضاه .

التاسع : أن معرفة شمائله و معجزاته و إرهاصاته تستدعي كمال الإيمان به عليه الصلاة و السلام , و زيادة المحبة , إذ الإنسان مطبوع على حب الجميل خلقاً و خُلقا علماً و عملاً , حالاً و اعتقاداً , و لا أجمل و أكمل و لا أفضل من أخلاقه و شمائله صلى الله عليه و سلم , و زيادة المحبة و كمال الإيمان مطلوبان شرعاً فما كان يستدعيهما مطلوب كذلك .

العاشر : أن تعظيمه صلى الله عليه و سلم مشروع , و الفرح بيوم ميلاده الشريف بإظهار السرور و وضع الولائم و الاجتماع للذكر و إكرام الفقراء , من أظهر مظاهر التعظيم و الابتهاج و الفرح و الشكر لله , بما هدانا لدينه القويم , و ما من به علينا من بعثه عليه أفضل الصلاة و التسليم .

الحادي عشر : يؤخذ من قوله صلى الله عليه و سلم في فضل يوم الجمعة , و عد مزاياه , و فيه ولد آدم , تشريف الزمان الذي ثبت أنه ميلاد لأي نبي كان من الأنبياء عليهم السلام , فكيف باليوم الذي ولد فيه أفضل النبيين و أشرف المرسلين ؟ و لا يختص هذا التعظيم بذلك اليوم بعينه بل يكون له خصوصاً و لنوعه عموماً مهما تكرر كما هو الحال في يوم الجمعة , شكراً للنعمة , و إظهاراً لمزية النبوة و إحياء للحوادث التاريخية الخطيرة ذات الإصلاح المهم في تاريخ الإنسانية و جبهة الدهر و صحيفة الخلود , كما يؤخذ تعظيم المكان الذي ولد فيه نبي من أمر جبريا عليه السلام النبي صلى الله عليه و سلم بصلاة ركعتين ببيت لحم ثم قال له : أتدري أين صليت ؟ قال : لا , قال : صليت ببيت لحمٍ حيث ولد عيسى .
الثاني عشر : أن المولد أمر استحسنه العلماء و المسلمون في جميع البلاد , و جرى به العمل في كل صقعٍ فهو مطلوب شرعاً للقاعدة المأخوذة من حديث ابن مسعود الموقوف ( ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن , و ما رآه المسلمون قبيحاً فهو عند الله قبيح ) أخرجهُ أحمد .

الثالث عشر : أن المولد اجتماع ذكرٍ و صدقةٍ و مدحٍ و تعظيمٍ للجناب النبوي فهو سنة , و هذهِ أمور مطلوبة شرعاً و ممدوحة , و جاءت الآثار الصحيحة بها و بالحث عليها .

الرابع عشر : أن الله تعالى قال : {وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ } (120) سورة هود , يظهر منه أن الحكمة في قص أنباء الرسل عليهم السلام تثبيت فؤاده الشريف بذلك . و لا شك أننا اليوم نحتاج إلى تثبيت أفئدتنا بأنبائه و أخباره أشد من احتياجه هو صلى الله عليه و سلم .

الخامس عشر : ليس كل ما لم يفعله السلف و لم يكن في الصدر الأول فهو بدعة منكرة سيئة يحرم فعلها و يجب الإنكار عليها , بل يجب أن يعرض ما أحدث على أدلة الشرع , فما اشتمل على مصلحة فهو واجب أو على محرم فهو محرم , أو على مكروه فهو مكروه , أو على مباح فهو مباح , أو على مندوب فهو مندوب , و للوسائل حكم المقاصد , ثم قسم العلماء البجعة إلى خمسة أقسام :
واجبة : كالرد على أهل الزيغ , و تعلم النحو .
و مندوبة : كإحداث الربط و المدارس , و الأذان على المنابر و صنع إحسان لم يعهد في الصدر الأول .
و مكروه : كزخرفة المساجد , و تزويق المصاحف .
و مباحة : كاستعمال المنخل , و التوسع في الأكل و المشرب .
و محرمة : و هي ما أحدث لمخالفة السنة و لم تشمله أدلة الشرع العامة و لم يحتو على مصلحة شرعية .

السادس عشر : ليست كل بدعة محرمة و لو كان كذلك لحرم جمع أبي بكر و عمر و زيد رضي الله عنهم , القرآن و كتبه في المصاحف خوفاً على ضياعه بموت الصحابة القراء رضي الله عنهم , و لحرم جمع عمر رضي الله عنه الناس على إمامٍ واحدٍ في صلاة القيام مع قوله نعمت البدعة هذه , و حرم التصنيف في جميع العلوم النافعة و لوجب علينا حرب الكفار بالسهام و الأقواس مع حربهم لنا بالرصاص و المدافع و الدبابات و الطائرات و الغواصات و الأساطيل , و حرم الأذان على المنابر , و اتخاذ الربط و المدارس و المستشفيات و الإسعاف و دار اليتامى و السجون , فمن ثم قيد العلماء رضي الله عنهم حديث ( كل بدعة ضلالة ) بالبدعة السيئة , التي لم تكن في زمنه صلى الله عليه و سلم .
و نحن اليوم قد أحدثنا مسائل كثيرة لم يفعلها السلف . و ذلك كجمع الناس على إمامٍ واحدٍ في آخر الليل لأداء صلاة التهجد بعد صلاة التراويح , و كختم المصحف فيها , و كقراءة دعاء ختم القرآن , و كخطبة الإمام ليلة سبع و عشرين في صلاة التهجد , و كنداء المنادي بقوله صلاة القيام أثابكم الله , فكل هذا لم يفعله النبي صلى الله عليه و سلم و لا أحد من السلف , فهل يكون فعلنا له بدعة ؟

الثامن عشر : قال الإمام الشافعي رضي الله عنه : ما أحدث و خالف كتاباً أو سُنة أو إجماعاً أو أثراً فهو البدعة الضالة , و ما أحدث من الخير و لم يخالف شيئاً من ذلك فهو المحمود .
و جرى الإمام العز بن عبد السلام و النووي كذلك و بن الأثير على تقسيم البدعة إلى ما أشرنا إليه سابقاً .

التاسع عشر : كل ما تشمله الأدلة الشرعية و لم يقصد بإحداثه مخالفة الشريعة و لم يشتمل على مُنكرٍ فهو من الدين .
و قول المتعصب : إن هذا لم يفعله السلف ليس هو دليلاً لهُ , بل هو عدم دليلٍ كما لا يخفى على من مارس علم الأصول , فقد سمى الشارع بدعة الهدى سنة و وعد فاعلها أجراً , فقال عليه الصلاة و السلام : ( من سن في الإسلام سنة حسنة فعمل بها بعده كتب له مثل أجر من عمل بها , و لا ينقص من أجورهم شئ ) .

العشرون : إن الاحتفال بالمولد إحياء لذكرى المصطفى صلى الله عليه و سلم و ذلك مشروع عندنا في الإسلام , فأنت ترى أن أكثر أعمال الحج إنما هي إحياء لذكريات مشهودة و مواقف محمودة , فالسعي بين الصفا و المروة و رمي الجمار و الذبح بمنى , كلها حوادث ماضية سابقة , يحيي المسلمون ذكراها بتجديد صورتها في الواقع .

واحد و عشرون : كل ما ذكرنا سابقاً من الوجوه في مشروعية المولد إنما هو في المولد الذي خلا من المنكرات المذمومة التي يجب الإنكار عليها , أما إذا اشتمل على شىءٍ مما يجب الإنكار عليه كاختلاط الرجال بالنساء و ارتكاب المحرمات و كثرة الإسراف , مما لا يرضى به صاحب المولد الشريف صلى الله عليه و سلم , فهذا لا شك في تحريمه و منعه لما اشتمل من المحرمات لكن تحريمه حينئذٍ يكون عارضياً لا ذاتياً كما لا يخفى على من تأمل ذلك .

مفهوم المولد في نظري

إننا نرى أن الاحتفال بالمولد النبوي الشريف ليست له كيفية مخصوصة , لا بد من الالتزام و إلزام الناس بها , بل إن كل ما يدعو إلى الخير و يجمع الناس على الهدى و يرشدهم إلى ما فيه منفعتهم في دينهم و دنياهم يحصل به تحقيق المقصود من المولد النبوي .
و لذلك فلو اجتمعنا على شيء من المدائح التي فيها ذكر الحبيب صلى الله عليه و سلم و فضله و جهاده و خصائصه , و لم نقرأ قصة المولد النبوي التي تعارف الناس على قراءتها و اصطلحوا عليها حتى ظن بعضهم أن المولد النبوي لا يتم إلا بها , ثم استمعنا إلى ما يلقيه المتحدثون من مواعظ و إرشادات و إلى ما يتلوه القارئ من آيات .
أقول : لو فعلنا ذلك فإن ذلك داخل تحت المولد النبوي الشريف , و أظن أن هذا المعنى لا يختلف عليه اثنان , و لا ينتطح فيه عنزان .

إضافة تعليق جديد