المفتش الحاج مصطفى يتحدث عن التعليم والإصلاح والمفتشية، وملابسات ترك بنت مكناس للوزارة، والخزائن التي تركت فارغة.. (مقابلة)

19 ديسمبر, 2019 - 01:13
المفتش الحاج مصطفي

رغم أهميته ومحوريته في عملية البناء الوطني؛ ما يزال قطاع التعليم بكل مستوياته مثار قلق لكل الموريتانيين؛ ويكاد يكون القطاع الوحيد الذي يجمع الكل على الاعتراف بواقعه المتردي؛ وعلى تتابع الإخفاقات التي لازمت مختلف محاولات إصلاحه، وحتى محاولات تشخيص مشكلاته وتصور حلول عقلانية وموضوعية لها؛ ناهيك عن تنفيذ تلك الحلول والتصورات على أرض الواقع.

وقد اتخذت قضية التعليم مكانة جوهرية ومحورية في برنامج "تعهداتي" لرئيس الجمهورية محمد ولد الشيخ الغزواني؛ ما جعل الأنظار تتجه بأمل ووجل أيضا لمعرفة مدى التوفيق الذي قد يحالف الحكومة الحالية في تحقيق شيء مختلف عما حققته الحكومات المتعاقبة قبلها من أجل حلحلة هذه المعضلة المزمنة.

في هذا الإطار؛ أجرت وكالة "ميثاق" الإخبارية المقابلة التالية مع الأستاذ الحاج ولد المصطفى مفتش تعليم ثانوي وأمين العمل النقابي بنقابة مفتشي التعليم الثانوي والفني:

ميثاق:

أهلا بكم حضرة المفتش، وشكرا لكم على قبولكم إجراء هذه المقابلة، والرد على أهم الأسئلة المطروحة بقوة هذه الأيام حول واقع التعليم في موريتانيا، وأهم التحديات التي تواجه مطلب إصلاحه وتحسين أدائه.

المفتش الحاج مصطفي:

أهلا بكم وسهلا؛ وشكرا لكم ولوكالة "ميثاق" المحترمة على أخلاقها المهنية الرفيعة، وعلى عنايتها الكبيرة بكل القضايا الوطنية الكبرى وفي مقدمتها قضية التعليم ومشكلاته الشائكة.

ميثاق:

بداية؛ ماذا لو بدأنا بتشخيص أو تقييم سريع لواقع وزارتكم (وزارة التهذيب) خلال العشرية الأخيرة من عمر الدولة الموريتانية؟

المفتش الحاج مصطفي:

كما تعلمون؛ لقد بدأت العشرية الأخيرة بتقسيم قطاع التعليم على ثلاث وزارت هي وزارة الدولة للتهذيب الوطني والتعليم العالي والبحث العلمي، ووزارة التعليم الأساسي والثانوي، ووزارة التكوين الفني والمهني..  وفي هذه المرحلة جرى التركيز على التعليم العالي والتكوين التقني والمهني، وتم إطلاق مدارس الامتياز في التعليم الثانوي، ثم الأساسي.. ونتيجة لتلك السياسة انفصل التعليم إلى أقطاب متنافرة وأصبح الاهتمام منصبا على نخبة من التلاميذ وعدد قليل من المواد الدراسية، وجرى إهمال بقية أقطاب التعليم التي تضم 96 في المئة من التلاميذ وأكثر من نصف المحتويات المدرسة (اللغات والمواد الأدبية)؛ ثم عادت وزارة التهذيب من جديد لتضم التعليم الأساسي والثانوي، وقد ورثت السياسة السابقة التي تقيم حواجز داخل التعليم الواحد وتلقى بجزء كبير في دائرة عدم الاهتمام مما أضعف المستويات وشجع الممارسات غير التربوية وزاد من سوء تسيير المصادر البشرية وقلل من قيمة التعليم والمتعلم كليهما.

ومنذ سنة 2015م "سنة التعليم"، والسنوات التي تلتها من العشرية؛ عمت الفوضى الخريطة المدرسية وتم استنزاف الطواقم التربوية التي تسرب الكثير منها إلى الإدارات المختلفة، وأصبحت ظاهرة التعاقد انطلاقا من معايير الزبونية والعلاقات الخاصة تهيمن على المشهد التعليمي، واستطاع غير المؤهلين الولوج إلى المدارس وتدريس ما يشاءون دون اعتبار للتخصصات والمحتويات المدرسة، وساهمت نظرة الوزارة الدونية لبعض المواد الأدبية في إهمال تدريسها والتعاقد مع كل من يقبل شروط العقد الضعيف ماديا.

وأستطيع أن استخلص من ذلك أن مرحلة العشرية وإن كانت قد ورثت إصلاحا متعثرا وتعليما أخذ بالفعل طريق المنحدر وسلك سبيل التراجع منذ التسعينات أو قبلها بقليل؛ فإن العشرية سرعت وتيرة الانهيار الشامل ووجهت التعليم نحو أهداف صغيرة وطموح محدود وتمييز فاضح بين مكونات التعليم الواحد.

ميثاق:

وما الجديد في نظركم بعد انقضاء تلك العشرية، وكيف تقيمون أداء وزارة التهذيب الوطني والتكوين المهني؛ حتى الآن؟

المفتش الحاج مصطفي:

بعد العشرية تنفس الجميع الصعداء على كل المستويات والتعليم يؤثر ويتأثر – ولكنه خلال السنوات الأخيرة كان يتأثر ولا يؤثر- لذلك سادت منذ إعلان رئيس الجمهورية محمد ولد الشيخ الغزوانى في برنامجه الانتخابي عن طموح قوى لإصلاح التعليم بوصفه أولوية وحدد برنامجه الخطوط العريضة للإصلاح المنشود.. سادت روح من التفاؤل، واستعاد الناس الأمل من جديد، ولقد بدأت مؤشرات ذلك سريعا مع اختيار من يتولى تسير وزارات التعليم من أهل التخصص وذوي الكفاءة والبعد عن التورط في الفساد السابق، وبدأت إجراءات الفصل بين الوزارتين متعثرة وبطيئة نتيجة تحديات كثيرة واجهتها وتواجهها من أبرزها ضعف الموارد في الميزانية التي ورثتها فارغة، ويبدو أن الحكومة لا تريد الإفصاح عن ذلك، كذلك وجود لجنة عليا يرأسها الوزير الأول تشرف على ترتيبات الانفصال.. كل ذاك ساهم في ضبابية المشهد وتأخر الإجراءات المطمئنة على الإصلاح وهو ما دفع البعض لانتقاد الوزراء وتنظيم احتجاجات وحتى إضرابات..

ميثاق:

بصفتكم مفتشا للتعليم الثانوي، ما تقييمكم لأداء وواقع المفتشية؟

المفتش الحاج مصطفي:

مفتشية التعليم الثانوي مؤسسة تربوية يفترض أن تقود المنظومة التربوية، وقد ظلت دائما تحتفظ بعدد هام من الكفاءات الوطنية في مجالات عملها؛ لكنها بقيت مقيدة ومنزوعة الصلاحيات بسبب المرسوم 76/92 الذي يقيد أي عمل رقابي تقوم به بأوامر من الوزير وهو ما جعل المفتشية لا تعمل إلا انطلاقا من تعليمات محددة وهو ما حولها إلى وسيلة تستخدمها الإدارة لأغراض تحددها ليس من بينها الأهداف الأساسية لمهنة المفتش في العالم كله، وقد انتقص هذا الوضع من قيمتها وجدوائية عملها.. ورغم أن مفتشيها في السنوات الأخيرة حصلوا على سلك وظيفي يجعلهم في أعلى سلم الوظيفة، كما فتحت مسابقة لدخول سلك التفتيش، وفتح قسم لتكوين المفتشين بالمدرسة العليا للأساتذة والمفتشين مدته سنتان؛ إلا أن كل ذلك لم يغير في عملها وممارستها لمهامها الشيء الكثير..

وأما بالنسبة لمكانة المفتش في المراحل الأولى من نشأة المفتشية فقد كانت تشبه تماما مكانة المدرس ومنزلة التعليم؛ حيث انهارت مع الانهيار الشامل للقيم والذي سادت معه القيم المادية، ما جعل النظرة إلى التعليم تتراجع، وكذلك النظرة للقائمين عليه.. ولكن ظروفا خاصة أدت إلى هذا التراجع السريع الذي شهدته مكانة المفتش في المنظومة التربوية؛ فقد وقف وزير الدولة في حكومة العشرية في وجه بناء سلك المفتشين، وحرص بنفسه على نزع جميع علاواته وامتيازاته المادية، وأفرغه من محتواه لأسباب شخصية خاصة بمزاجه، ويعرف ذلك كل من اشترك معنا في نقاشات مع الوزير أثناء صياغة مشروع السلك، وقد كان يفعل ذلك وفي نيته أن لا يعطي للمفتشية أي دور في المنظومة التربوية، ولقد فعل وتركها مهمشة داخل الوزارة، وفصل عنها إدارة رقابة التسيير من أجل شل عملها؛ تماما كما يحدث إلى اليوم.

وأعتقد أن ما عاناه سلك المفتشين يشبه معاناة سلك الأخصائيين الذين يشتركون معنا في الرتبة وكلنا لم نحصل جميعا على علاوة السلك إلى الآن..

ميثاق:

كان مفتش التعليم الثانوي يحظى بمكانة معنوية رفيعة (حيث صنف في رتبة مدير مركزي) رغم إفراغ تلك المكانة أو المرتبة من أي مضمون مادي.. ثم فقد تلك المكانة التي تم حطها السنة الماضية إلى رتبة رئيس قسم أو مصلحة!!

بم تفسرون ذلك؟ وهل تتوقعون جديدا بخصوص هذه المظلمة؟ وما تفسيركم للتمييز بين علاوات مفتش التعليم الفني ومفتش التهذيب؟

المفتش الحاج مصطفي:

بخصوص التصنيف الأصلي للمفتشين التربويين، والذي يضعهم في رتبة مدير مركزي؛ فقد نصت المادة2  من مواد إجراءات دخول سلك المفتشين على حقنا في الاحتفاظ بالتصنيف إلى حين حصولنا على علاوات السلك، وهو ما ناقضه إجراء زيادة العلاوات الأخير والذي منح المفتشين علاوة أربعة آلاف أوقية جديدة في حين منح علاوة 20 ألف أوقية جديدة لرتبة مدير مركزي، وهو إجراء مخالف للقانون وللعدالة وللأخلاق، ومن الغريب أن ذات الحق هو الذي سمح باستفادة زملائنا في نفس السلك من التعليم الفني من علاوة مدير مركزي..

وللأمانة؛ فإن وزارة التهذيب هي المسئولة عن ذلك، وقد تفهمت معالي الوزيرة الناه بنت مكناس الأمر خلال مرورها السريع على الوزارة، وربما كان هذا التفهم من أسباب مغادرتها المفاجئة..

عموما أعتقد أن هذا الخطأ قابل للتصحيح في أي وقت، ولدينا الأمل والثقة في تصحيحه مع ما نلمسه من إرادة للإصلاح لدى الوزير محمد ماء العينين ولد أييه.

ميثاق:

ما تقييمكم لمحاولات الإصلاح الجارية الآن وأين موقع ودور المفتش والمفتشية في هذه المحاولات؟

المفتش الحاج مصطفي:

 نعتقد أن الإصلاح سيتم من خلال تنفيذ تعهدات برنامج رئيس الجمهورية، وقد بدأ بالفعل من خلال خطوات بطيئة ولكنها واضحة لدى الوزير محمد ماء العينين ولد أييه.. إنها رؤية واضحة للإصلاح وقد باشر عمله من خلال تشاور واسع وزيارات مباشرة للميدان واطلاع على المشاكل ترتب عنها تشكيل لجنة للتشاور والشراكة حول مسار الإصلاح ستكون وسيلة جيدة لجعل نقابات التعليم الثانوي والفني والتكوين المهني حاضرة ومشاركة في مسار الإصلاح؛ كما أن اعتماد مكتب دولي للتدقيق من شأنه أن يوفر قاعدة بيانات صحيحة يمكن اعتمادها في رسم السياسات ووضع الخطط والبرامج، أما دور المفتش التربوي والمفتشية بصفة عامة فهو قيادة المنظومة التربوية وما يتطلبه ذلك من صلاحيات ووسائل وتنظيم وتكوين، وهي أمور يدركها الوزير وليس خافيا أنه مطلع على كل تفاصيل الموضوع قبل أن يصبح وزيرا..

ميثاق:

هل لنا نعرف شيئا عن مهام ووظيفة مفتشية التعليم الثانوي؟

المفتش الحاج مصطفي:

بالنسبة لمهام المفتشية العامة للتعليم الثانوى؛ يمكننا أن نجملها في الآتي:

- إنتاج البرامج التعليمية وتطويرها وتقويمها والتكوين عليها ومتابعة تنفيذها

- تكوين الميدانيين على طرق التدريس الجديدة والمقاربات البيداغوحية والمستجدات التربوية والديداكتيكية 

- إنتاج الأدلة التربوية والكتب المدرسية والوثائق التوجيهية

- إعداد التصورات والخطط والدراسات الميدانية وإجراء البحوث وتقويم الأداء التربوي وجودة التعليم ونجاعته

- إعداد مدونات التكوين والنشريات والمجلات التربوية وتسيير المواقع التعليمية وإدخال تقنيات الاتصال في ميادين التعليم كافة

- تأطير المدرسين وتفتيشهم وتقويم أدائهم ومستوياتهم، وإسناد الدرجات التقويمية بذلك

- رقابة تسيير الإدارات المركزية والجهوية والمؤسسات التعليمية والتأكد من مطابقة عملها للقوانين المعمول بها، وإعداد التقارير عن عملها

- تقديم مختلف الاستشارات للوزير حول المنظومة التربوية وطرق معالجة الاختلالات وحل المشاكل

- المساهمة مع إدارات الوزارة المختصة في تسيير الامتحانات الوطنية والإشراف عليها وتنظيم التكوينات المختلفة وتدقيق البيانات وتنفيذ السياسات

ولعلنا نفهم من هذه المهام الموكلة للمفتشية العامة للتعليم الثانوي أن دورها محوري في العملية التعليمية؛ فهي المؤسسة المواكبة لها والمرافقة والمقومة؛ ولذلك فإن إصلاح قيادة المنظومة التعليمة من شأنه أن ينعكس على المنظومة كلها ويبدأ إصلاحها بما يلي:

- وضع المفتشين التربويين في الظروف المادية والمعنوية المناسبة لأداء مهمتهم النبيلة، ويبدأ ذلك بمنحهم حقهم المتمثل في علاوة سلك المفتشين بما يتناسب مع موقعهم وسلمهم الوظيفي

- إعطاء مؤسسة المفتشية العامة صلاحياتها كاملة وإزالة المعوقات من طريقها

- إعادة هيكلة المؤسسة لتتلاءم مع تطور المنظومة التربوية والخريطة المدرسية من خلال إنشاء أكاديميات جهوية للتفتيش تشرف على العمل التربوي كما هو الحال في الدول المجاورة

- فتح مراكز للإنتاج التربوي والعلمي والقيام بالبحوث والدراسات الميدانية

- إقامة شبكات وطنية تعليمية داخل المفتشية توظف وسائل الاتصال الحديثة وتوفر الخدمة التربوية للطواقم الميدانية

- توفير الوسائل المادية لعمل المفتشية من حقيبة المفتش إلى علاوات التأطير والبحث والتسهيلات الأخرى الممنوحة لنظرائنا في التعليم العالي

- تكوينات دورية للمفتشين وتصنيفهم إلى فئات حسب المؤهلات والقدرات والمردودية وجعل مراتب الانتقال ضمن سلم التكوين خاضعا للمعيارية..

دون تحقيق هذه الضرورات الملحة ستظل المفتشية عاجزة عن الاطلاع بمسئولياتها الخطيرة والكبيرة، وستظل الكفاءات العالية للمفتشين معطلة، ويظل القطاع والمجتمع كله محروما من الاستفادة من تلك الطاقات التي تكلفت خزينة الدولة الكثير من أجل تعليمها وتكوينها وتخريجها؛ ثم حرم الجميع من الاستفادة منها بسبب أخطاء بسيطة لكنها نتائجها جد كارثية.

ميثاق:

هل أنتم متفائلون في ظل الوضع الحالي وفصل وزارتي التعليم؟

المفتش الحاج مصطفي:

بالنسبة لنا في النقابة الوطنية لمفتشي التعليم الثانوي والفني نسجل ارتياحنا لتعيين وزير التعليم الثانوي والتكوين التقني والمهني من بين الكفاءات الوطنية المؤهلة، والمتميز بأسلوبه المهني والأخلاقي المعروف قبل تولى المنصب، ولا شك أن ذلك سيكون له تأثير إيجابي مباشر على إنجاز الإصلاح الذي تقوده الوزارة، وقد لمسنا لديه فهما واضحا لأولويات الإصلاح، ونعتقد أن خطوة الشراكة مع النقابات أمر إيجابي، وكذلك حرص الوزير على وضع معايير تنظم جميع الإجراءات التي يتخذها والتي من أهمها إسناد الوظائف والمهام للمؤهيلن لها والذين لم يطلعوا بدور في ممارسات الفساد السابقة بعدما استبيحت الوزارة في السنوات الأخيرة وأصبحت وكرا للترضيات السياسية، وأصبح من يشغل وظيفة فيها يعرف المراقب البعيد قبل القريب من عينه في ذلك الموقع، وما هي معايير تعيينه؛ وأغلبها ترتبط بالقرابة من الوزراء، وبالزبونية السياسية، وبتدخلات الشخصيات النافذة في الدولة.. كل ذلك جاء على حساب تسيير المرافق العمومية..

وإذا نجحت الوزارة في شق طريق جديد يسمح بتطبيق المعايير؛ فسيكون ذلك أهم مرتكز للإصلاح، أما إذا عجزت وأبقت على أصحاب الوساطات القوية والمتنفذين؛ فإن الإصلاح كله سيتأثر وسيصبح مآله ومستقبله مثيرا للقلق، ولا نريد..

ميثاق: حضرة المفتش؛ شكرا جزيلا لكم

المفتش الحاج مصطفي: العفو.. الشكر لكم، بارك الله فيكم

إضافة تعليق جديد