كلفة العنف ضد المرأة بلايين ضائعة

1 مايو, 2019 - 11:59

قبل أن ترفع يدك وتضرب امرأة، أو تقرر أن تعاكس فتاة، أو يراودك فكرك أن تميّز ضد مرؤوستك في العمل، أو تستمر في نهج تربية ابنتك بإيذائها بدنياً ولفظياً، أو تستقل وسيلة مواصلات عامة بغرض التحرّش بأنثى، أو تحمل موروثاً ثقافياً قوامه أن من حق الرجل أن يؤدّب زوجته أو يقوّم خطيبته بالضرب والإهانة، عليك أن تنتبه إلى أنك لا تمارس عنفاً فقط على أنثى، لكنك تضع موازنة البلد وتعرّض أموالها لخطر داهم.

تشير إحصاءات إلى أن امرأة واحدة بين من كل ثلاث نساء سبق وتعرّضت لعنف جسدي أو جنسي أو كليهما. هذا النمط من العنف الأكثر انتهاكاً لحقوق الإنسان في العالم، يلقي على المرأة والفتاة آثاراً نفسية وبدنية وجنسية وعقلية وخيمة، ويحول دون مشاركتها في شكل صحي وفعال في المجتمع الذي تعيش فيه، ومصر ليست استثناءً.

نساء مصر وفتياتها يعانين الأمرَين من «تنويعة» كبيرة من أشكال العنف المسكوت عنه، والمرضي عليه، التي يصل بعضها إلى حدّ الإجلال والتبجيل في ظل زمن التديّن القسري المعتمد على أشكال غريبة من التفسير الديني والتي جعلت من المرأة المصرية مواطناً درجة ثانية وكائناً غير مرغوب في تواجده في الفضاء العام. وظلت هذه التنويعة، وهذه التشكيلة حبيسة دراسات متناثرة وأبحاث متفرقة وكتابات فردية لا تؤخذ بعين الجد، بل توصم بمعاداة العادات والتقاليد حيناً، ومحاربة الدين تارة، والمرفوضة دائماً وأبداً.

لكن خروج «مسح التكلفة الاقتصادية للعنف القائم على النوع الإجتماعي في مصر» إلى النور قبل أيام في القاهرة، سيخرج بالعنف المسكوت عنه الواقع على الغالبية المطلقة من نساء مصر من هذا الحيز ومن ثم المقبول والمسموح إلى فضاء المجاهرة والمواجهة واعتبار السكوت عنه فضيحة مدوية.

«إحنا من ساعة ما بنتولد بنعاني من العنف»، «الكلمة أمرّ من العلقة. ساعات تكون أصعب من الضرب»، «زوجي يقول لي كلاماً كأنه ضربني بسكين»، «بقيت أخاف أمشي في الشارع وبطلت أركب أتوبيسات». كلمات بسيطة لكنها تعبّر عن سنوات وعادات وتقاليد وتفسيرات دينية مغلوطة تعانيها المصريات من دون سند إنساني أو حماية قانونية أو حتى تعاطف مجتمعي.

«لومعي قرش أصرف على نفسي كنت إترحمت من ذل زوجي. لكن إيه إللي مخليني متحملة المر؟ إللي أمرّ منه». المرّ والأمرّ منه سمة العنف ضد المرأة في مصر، وليس فقط النوع الأشهر وهو الممارس على يد الزوج. فمن فقر تهرب منه بزواج مبكر، إلى ضرب تسكت عنه لأن لا مال لها ولا سند، إلى تحرّش في الشارع والمواصلات تفر منه بترك عملها، إلى ختان لا تملك أن تقول لممارسيه «لا»، إلى تمييز في العمل، ولائحة المر والأمرّ منه طويلة جداً.

والبداية مع الصحة البدنية والعدالة في التأمين الصحي، إذ أظهر المسح أن حوالى 40 في المئة من المصريات بين سن 18 و64 سنة يعانين مشكلات صحية، و25 في المئة منهن يعانين أمراضاً مزمنة. وعلى رغم ذلك فإن 13 في المئة فقط منهن مشتركات في نظام تأمين صحي. وبين كل عشر نــساء سبق لهن الزواج، أربع حملن حملاً واحداً على الأقل انتهى بالإجهاض أو نزول الجنين ميتاً. واللافت أن أكثر الفئات عرضة للإجهاض هن النساء الأكثر فقراً والأقل تعليماً.

أولئك أيضاً هن الأكثر خضوعاً للممارسات الخاطئة والضارة وفي مقدّمها الختان والزواج المبكر. بين كل عشر نساء بين 18 و64 سنة 9 خضعن للختان، وما يزيد على 25 في المئة من المصريات تزوّجن قبل بلوغ سن الـ18 سنة. ووفق المسح، فإن هناك ارتباطاً وثيقاً بين الزواج المبكر وحالة العمل، فهو أكثر شيوعاً بين النساء اللاتي لم يسبق لهن العمل أو العاملات من دون أجر نقدي، وذلك مقارنة بالعاملات في مقابل أجر نقدي أو توقفن عن العمل.

سلوك عادي

ومن العمل إلى البيت حيث الزوج أو الخطيب. حوالى نصف المصريات ممن سبق لهن الزواج تعرّضن لشكل من أشكال العنف على يد الزوج. 43 في المئة تعرّضن لعنف نفسي، و32 في المئة لعنف بدني، و12 في المئة لعنف جنسي. و10 في المئة منهن عانين من الأنواع الثلاثة مجتمعة. العنف لا يقف عند حد الزوج، بل يمتد كذلك إلى الخطيب الذي بات يرى أن من حقه تأديب الخطيبة بالعنف. 17 في المئة من النساء تعرضن لشكل واحد على الأقل من العنف على يد الخطيب. واللافت أن الغالبية العظمى من النساء اللاتي يتعرّضن للعنف على يد الزوج أو الخطيب لا يطلبن خدمات ولا يتصلن بمسؤول للتعامل مع العنف الذي تعرّضن له.

ويشير المسح إلى أن العنف المنزلي ظاهرة شائعة في صورة مروعة، وينظر إليه باعتباره سلوكاً عادياً. وغالباً ما ينظر إلى المرأة باعتبارها كائناً ضعيفاً وهشاً وعرضة للاستغلال، على رغم أن هذا يعرّضها لعواقب صحية وخيمة بما في ذلك صحتها الإنجابية والجنسية. كما أن الأطفال الذين يشهدون العنف الأسري يكونون أكثر عرضة لمشكلات سلوكية ونفسية ودراسية. ومثل هذه الممارسات العنيفة من قبل الزوج عادة يصاحبها تحكّم مالي. وإذا كانت غالبية النساء لا يطلبن العون أو الإنقاذ لأن الضرب الزوجي مقبول ثقافياً، إلا أن آثاره النفسية تثور على العادات والتقاليد البالية. تقول إحدى السيدات: «مرة لفرط الضرب من زوجي لم أعد أرى بعيني. لكن قلت لنفسي أحسن كيلا أراه».

لكن المرأة المصرية لو نجحت في حجب الزوج بعيداً من مجال رؤيتها، هل تنجح في حجب كل من يمارس العنف ضدها خارج نطاق رؤيتها؟ 18 في المئة من المصريات يتعرّضن لعنف بدني أو جنسي منذ بلوغهن سن الـ18 سنة على أيدي أفراد العائلة أو المقرّبين أو الموجودين في البيئة المحيطة. يرتكب غالبية الذكور الغرباء وقائع العنف الجنسي، ويرتكب الأب نحو 3 في المئة منها، والأخ واحد في المئة. وكالعادة لا تطلب الغالبية العظمى من النساء العون ولا يتقدّمن ببلاغات.

آفات مستشرية

ومن العنف في الأماكن الخاصة إلى قرينه في الأماكن العامة، وهي إحدى الآفات المستشرية في مصر التي لا تفرّق بين فئة إجتماعية وغيرها. وبالطبع يأتي التحرّش في المقدّمة ويحدّ من حرية الحركة للنساء والفتيات، ويؤثر سلباً على إستمرارهن في التعليم والعمل وفي صحتهن ورفاهتهن. كما يحدّ من اندماجهن في الحياة العامة والاستمتاع بالأنشطة الثقافية والترفيهية. من الشارع إلى الأسواق والمؤسسات التعليمية ومنها إلى المواصلات العامة والحدائق، لا توجد أماكن مستثناة. 13 في المئة من النساء تعرّضن لشكل واحد على الأقل من العنف في الأماكن العامة خلال العام الماضي.

وتتساءل مايا مرسي رئيسة المجلس القومي للمرأة، إن كان 2،17 بليون جنيه مصري في عام 2015 كلفة مقبولة للعنف الواقع على المصريات؟ كلفة هذه الأضرار على الضحايا وأسرهن 1،499 بليون جنيه في العام الواحد جراء عنف الأزواج فقط. فالعنف لا يؤثر فقط على المرأة المعتدى عليها، بل يشمل أطفالها وأسرتها ومجتمعها، والمعتدي نفسه. ويتعدّى هذا التأثير حدود الأذى النفسي والجسدي، ويترك بصمة واضحة على حياتها. فمثلاً تبلغ كلفة إيجاد منزل بديل أو مأوى للنساء اللواتي يتركن بيوتهن بسبب عنف الأزواج 585 مليون جنيه سنوياً. كما تتكلف ضحايا العنف وأسرهن نحو 548 مليوناً سنوياً للوقت الإضافي الذي يقضينه في تغيير الطريق والبحث عن وسيلة مواصلات بديلة لتلك التي يتعرّضن فيها للتحرّش. كما تقدّر الكلفة الإجمالية لعلاج الإصابات الناجمة عن حوادث العنف التي تتعرّض لها النساء (من الزوج أو الخطيب) في العام الواحد نحو 6،15 بليون جنيه.

وبين تكاليف ملموسة من كلفة علاج وخسارة إنتاج وموارد بشرية، وأخرى غير ملموسة حيث المعاناة والألم والآثار النفسية السيئة، يضع المسح كلفة باهظة أمام أولياء الأمر. فإذا كانت معاناة النساء الساكتات لا تحرّك أحداً، فربما بلايين الجنيهات التي تتكبّدها الدول حيث وزارات العدل والشرطة والصحة ومجالات العمل تحرّك الساكن وتوقظ النائم.

وزيرة التضامن الإجتماعي الدكتورة غادة والي قالت إن العنف لم يعد فقط مشكلة النساء والفتيات، بل أصبح آفة في المجتمع، و»يحتاج بالتالي إلى تشريعات مناسبة، وتطبيق كامل للقانون وأحكام رادعة، والأخطر والأهم تغيير ثقافة المجتمع القابل للعنف والغافر له». وتضيف: «مناهج التعليم تحتاج تغييراً في الأفكار. الخطاب الديني يحتاج إصلاحاً يعطي المرأة المساحة الكافية للحماية والإحترام. الخطاب الثقافي والدراما يحتاجان إلى تنقيح هذا الكم المذهل من العنف وتقديم المرأة في صور مثيرة للاشمئزاز. وطالما البطالة بين النساء أربعة أضعاف مثلها عند الرجال، ستظل حقوق المرأة مهدورة. استقلال المرأة الاقتصادي مطلوب. والأهم أن نتوقّف فوراً عن تبني ثقافة لوم الضحية».

ويرى الدكتور مجدي خالد ممثل صندوق الأمم المتحدة للسكان في مصر، أن توفير هذه البلايين الناجمــة عـــن العنف ضد المرأة من شأنه أن يوفّر المال اللازم للتنمية، والعكس صحيح. ومن مصر إلى العالم العربي حيث يرى المدير الإقليـــمي للدور العربية في الصندوق الدكتـــور لؤي شبانة أن مصر قادرة على إحداث تغيـــير فارق في ملف العنف ضد المرأة، من شأنــه أن ينعكس على وضعها في البلدان العربية كلها.

الحياة اللندنية

 

 

إضافة تعليق جديد