الشبابيك والطوابير أم دفع «المعلوم»؟/ د. حسن حنفي

5 أكتوبر, 2017 - 21:04
د. حسن حنفي

موضوع قديم جديد. وفى كلتا الحالتين هو واقع حى يعيشه كل مواطن. وليس مجرد تأملات نظرية، وتحليل للأخلاق الاجتماعية. وهو موضوع الرشاوى. ويتأرجح بين البقشيش لعاملة النظافة فى المستشفيات أو الممرضة وبين الرشاوى بالمليارات. وله أسماء أخرى أكثر تهذيبا مثل «الإكرامية». فالمعطى يكرم من يُعطى إليه. وبالفرنسية يستعمل لفظ «من أجل الشراب» Pour-boir، وفى الألمانية شىء شبيه مثل «مال الشراب» Drinken-Gelt. والإنجليزية أقساها. إذ تستعمل لفظ Tip ويعنى ما يعطى فى الخفاء. واللفظ الشعبى العامى «بقشيش». ويعنى فيض الكريم. وكذلك لفظ «وهبة» من هبة أى تبرع وعطاء.

والسؤال هو: إذا نقلت الصحافة كل يوم عن فساد الكبار ورِشاهم وتهريب المليارات إلى الخارج بتوريد النفط من سيناء إلى إسرائيل، فلماذا لا يفسد الصغار لإعانتهم على لقمة العيش؟ أليس الخبز المبدأ الأول من المبادئ الأربعة لثورة الشعب الكبرى فى يناير 2011؟ ماذا يفعل الفقراء مثل موظفى الدولة وأمناء الشرطة كى يطعموا أولادهم لا أكثر من الخبز الحاف وإن استطاع «الغموس» فالفول والطعمية والعدس. واللحوم بأنواعها، حيوانات ودواجن وأسماك لا تخطر على بال؟ ماذا يفعل فى غلاء الأسعار التى تتضاعف أربع مرات والحجة ارتفاع الدولار حتى للجرجير والكرات والبقدونس؟ وإذا فسد الكبار جشعا فلماذا لا يفسد الصغار لقوت العيش؟ إنه الفقر «والله لو كان الفقر رجلا لقتلته». ومازالت الأسعار فى ارتفاع كل يوم، الكهرباء، الغاز، المحروقات، المواصلات حتى مياه الشرب. بقى الهواء الذى يستنشقه. فالفقير معذور ولكن الأغنياء وكبار رجال الأعمال ورجال السلطة لا عذر لهم.

وقد كان من ضمن وعود الحكومة للمواطنين المعذبين لاستخراج الأوراق الرسمية، شهادة ميلاد أو شهادة وفاة أو ما بينهما من تصريح للعمل أو بطاقة تموين أو بطاقة شخصية أو رخصة قيادة سيارة أو بناء منزل اعتماد ذلك كله من شباك واحد. وتسمى «الورقة ذات الشباك الواحد» الذى لديه جميع الموافقات والإمضاءات الضرورية. وهو وعد مثل كل الوعود، تعمير سيناء، إعادة بناء العشوائيات، مد شبكات المياه والصرف الصحى للقرى المحرومة منها، توفير احتياجات المواطنين. ومنها أيضا ربط الصحراء الشرقية بين وادى النيل إلى ساحل البحر الأحمر بشق قنوات نيلية جديدة كما شق محمد على القنوات لتوسيع الوادى، وشبكة طرق جديدة، وإنشاء مدن تملأ الفراغ الصحراوى قريبة من الجهة الشرقية للنيل وساحل البحر الأحمر الغربى. كذلك ربط الواحات الخمس فى صحراء مصر الغربية بمنخفض الفيوم وجعلها جميعا صالحة للزراعة والإسكان، ورسم خريطة جديدة لمصر كما حدد بيان 30 مارس إثر مظاهرات الطلاب ضد الأحكام المخففة التى صدرت ضد قادة الطيران والذين كانوا سببا فى هزيمة 1967. وهى خريطة بالعرض عبر الصحراء لا بالطول كما جرت العادة على ضفتى النيل.

وتلك قصة واقعية حدثت بالفعل وليست من صنع الخيال لكاتب قصصى أو لفيلم تسجيلى. وزير مفوض بالخارجية أراد أن يجدد رخصة السيارة التى انتهت بعد أن قام بعمرة كاملة للعربة، وبدّل المحرك القديم بمحرك جديد وأنفق عشرات الألوف من الجنيهات حتى تعود العربة صالحة للتجديد. وبعد أن وقف فى الطابور عدة مرات لم يستطع الاستمرار، وهو مسؤول كبير فى الخارجية المصرية. وعندما وجد أنه لا يوجد مكتب فى الوزارة يقوم بمثل هذه الأعمال عاد إلى الوقوف فى الطوابير ومعه ما يلزم من الأوراق: شهادة مخالفات قيل إنها قديمة ولابد من شهادة جديدة، ووثيقة تأمين طلبها لمدة ثلاث سنوات فأعطاه موظف التأمين وثيقة بسنتين وتسلم تأمين ثلاث سنوات، شهادة فحص المحرك ينقصها الرقم الصحيح، ورقم شركة السيارات. ولكل طلب شباك وطابور. وقصّ الوزير المفوض القصة لأحد زملائه بالخارجية، وقد كثر عملها بعد أزمة الخليج. فأعطاه اسم أمين شرطة يستطيع أن يقوم بكل ذلك فى يوم واحد. وكل خطوة لها ثمنها. وهو يأخذ المبلغ الكلى ويوزعه على زملائه. فقام الوزير المفوض بذلك «مجبر أخاك لا بطل». وصدرت الرخصة لعام واحد، ووثيقة التأمين سنتان! وشكر الله بعد أمين الشرطة أن رخصته سليمة لمدة عام «وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ» بالنسبة للمستقبل.

ليست القضية قضية أخلاق، جشع موظف بل هو الاحتياج. ماذا يفعل الموظف أو أمين الشرطة وراتبه لا يكفيه هو وأولاده؟ أليس هذا أفضل من التعامل مع المجرمين وتجار المخدرات والنفط على سرقات الكبار؟ وقد ثار جنود الأمن المركزى فى يناير 1986 لأن راتب كل منهم لا يكفى ثمن طبق أو كأس واحدة مما كان يراه من وراء الحائط الزجاجى فى الفنادق الكبرى التى يحرسها. كما ثارت جموع الشعب قبل ذلك فى يناير 1977 ضد غلاء الأسعار، مما اضطر الحكومة إلى التراجع وعودة الرئيس إلى العاصمة بعد أن كان قد أعد العدة إلى الهرب إلى صديقه الشاه بطائرته الخاصة من أسوان إلى طهران. هى الأوضاع الطبقية فى المجتمع التى تعطى جمهور الشعب الملاليم وكبار رجال الأعمال والتجار ورجال السلطة الملايين. فإذا قضى على الفساد الأكبر أمكن بسهولة القضاء على الفساد الأصغر. فنرجع من الجهاد الأكبر إلى الجهاد الأصغر.

ويحتاج ذلك إلى وقت طويل للتغلب على البون الشاسع بين الأغنياء والفقراء، والتخلص من عادة «المعلوم» كمصدر ثان ضرورى لتوسيع الرزق للأسرة المتعددة الأفراد. كما يحتاج الأمر إلى بعض الوقت للتخلص من الصورة الذهنية لمن ينتظر الإحسان بعدما يؤدى واجبه الوظيفى الذى يأخذ فى مقابله راتبه الذى لا يكفيه. وانتظارا لذلك ما أسهل أن تحقق الدولة وعدها بالورقة ذات الشباك الواحد. فهو حق المواطن وواجب الدولة حتى يستطيع المواطن أن يؤدى واجبه ويعطى للدولة حقها. وبالتالى يستطيع المواطن أن يحب الحياة من جديد دون تمنى الموت له ولأحبائه، ودون قتل الآخرين أو الانتحار. حينئذ لا يشعر المواطن أنه بحاجة إلى هجرة إلى مجتمع أفضل. ويخاطر بحياته بالغرق فى البحار قبل الوصول إلى شاطئ الأمان. ولا يشعر بالنقص أمام المجتمعات الأخرى. فهو قادر على أن يحقق ما يريد داخل وطنه.

المصري اليوم

إضافة تعليق جديد