من جديد، تقدِم الأيادي الآثمة على استفزاز مشاعر المسلمين في كافة أنحاء العالم، وينبري الغرب الديمقراطي متبجِّحا معتبرا ذلك “حرية تعبير”، تماما كما قيل عن الرسوم المسيئة من قبل.. كذلك قالوا من قبل وسيقولونها من بعد.
لهذا كله، وليس فقط مسألة اقتصاد وسوق وبيع وشراء ما يفرّقنا بين الغرب، وما يدعو الشرق إلى الابتعاد اليوم عن الغرب بعد انفجار الدمّل الأوكراني الذي كان يتورم منذ 30 سنة، لاسيما منذ 2014.
اليوم، بات كثيرٌ من المسلمين ومعظم البلدان المسلمة إن لم نقل كلها، يفهمون ما معنى الانحياز في زمن كان عدم الانحياز فيه، انحيازا. عدم الانحياز، ليس مجرد عقيدة أو تكتل إيديولوجي صرف، إنها منظومة قيم، ترفض ازدواجية القيم والمعايير وترفض هيمنة “المعيار الغربي الأحادي الأنموذج” في التعامل مع الدول والبلدان والشعوب وثقافتها ونمط عيشها وتفكيرها وتدينها وفهمها للأشياء وتسميتها للمسميات. لهذا، فالتحول الكبير والمتنوع والمتعدد الأصول الجغرافية واللغات والدين والثقافات في القارات الخمس، وبحث هذه الثقافات الوطنية والإقليمية عن تكتل وعن منظمة جديدة ضمن النظام الاقتصادي والسياسي العالمي الجديد، تحتمي بها اقتصاديا، وتقاسمها معاييرها وقواعد فكرها الإنساني والمعاملات الإنسانية، صار اليوم يربك الغرب وينذر بتقلبات وشرخ في المنظومة العالمية التي تأسست عقب الحرب العالمية الثانية، وتكرست بعد انكسار المعسكر الشيوعي السوفيتي.
اليوم، ورغم أن الأمر لا يبدو واضحا وجليا، إلا أن مخرجات هذه التحولات التي انجرّت عن كوفيد 19 ثم الأزمة الأوكرانية، فإن ما يشبه حربا عالميا ثالثة قائمة الآن، قد تنذر بانفجار لا يُبقي ولا يذر وقد ينتهي إلى ما آلت إليه الحرب الباردة بعد العدوان الثلاثي على مصر أيام خروتشوف، أي بالتهديد باستعمال السلاح النووي، ما يجبر القوات المتصادمة على الركون من جديد للتفاوض والتعايش ضمن حرب باردة جديدة، ستقسم العالم إلى ثلاث كتل على الأقل: الكتلة الغربية الليبرالية، الكتلة الشرقية، والكتلة الإفريقية ـ الأمريكية اللاتينية. وضمن هذه الكتل، ستبرز الكتلة العربية الإسلامية كقوة جديدة موحدة اقتصاديا وسياسيا أكثر من أي وقت مضى بعد ما رأت الآيات الغربية وتحالفها الفكري المعادي للشرق وللأديان والأخلاق، وتمجيد الغرب الليبرالي للقيم الشاذة التي يحاول الغرب جاهدا فرضها كنمط فكري وثقافي وقبولها ضمن حقل “حقوق الإنسان” و”حرية التعبير” والقبول حتى بتمزيق المصحف وحرقه وتدنيسه، وكل المحرمات التي لن يقبل بها مسلمٌ حتى لو كان غير ملتزم.
الإمعان الغربي في ازدراء الدين والأخلاق واحتقار المسلمين والعرب، وصولا إلى الاستبداد العنصري ضد الملوَّنين والملتزمين دينيا من خلال قوانين منع الحجاب والتميُّز كمسلم، كل ذلك سيؤدي -وقد بدأ هذا يحدث فعلا- إلى الانتقال إلى معسكر لم يكن متوفرا قبل اليوم، بفعل التقارب الغربي الروسي بعد 1991، وبسبب ضعف الدولة الروسية التي كانت ستنهار لولا استفاقة القيادة الروسية الجديدة وإعادة البلد إلى جادة الطريق قبل أن يلتهمها الغرب وتنتهي غربا.
ما يقوم به الرئيس بوتين اليوم تجاه المسلمين في روسيا وفي العالم، وتجاه الأقليات الدينية وتجاه الثقافة والأخلاق السليمة والفطرة الإنسانية التي ترفض الانحراف الأخلاقي بداعي “الحرية”، وتصرُّ على التربية العائلية على السلوك القويم في الثقافات الدينية الأرثوذوكسية واليهودية والإسلامية وباقي الديانات السماوية، كل هذا يدفع الشعوب والدول إلى الهروب من الهيمنة الغربية و”اللجوء الاقتصادي والاجتماعي” إلى البريكس ومنظمة شنغهاي وباقي التكتلات الرافضة للأحادية القطبية المهيمنة. إنه موسم البحث عن الانعتاق والبحث عن بيت تُصان فيه الكرامة الإنسانية.