أراع ألف

11 أغسطس, 2022 - 14:26

" أراع ألف..."

كان يوما قائظا. أيام نواكشوط أوائل التسعينيات
تمر على الشباب المثقل بهموم البطالة و شجن المدينة رتيبة تماما كالذي يجلس في عربة قطار الشمال المحمل بخامات الحديد السوداء.
لا شيء يكسر رتابة المشهد. هدير القطار و صحراء لا تنتهي.
شبيه هذا الحال بواقع الشباب في تلك الحقبة الممحلة.
لم يدر في خلد السيد " س" وهو يتخلى عن كتابة مقال أسبوعي في جريدة الشعب الرسمية مقابل 5000 آلاف للمقال الواحد أن استلامه لوظيفة رئيس تحرير في جريدة مستقلة لن يكون سوى قفزة قاتلة نحو المجهول.
أفاق السيد " س" من حلمه الجميل على كابوس يخنقه حد الموت.
هل يصرخ في شخصه الحالم  حتى يفيق ويرفض واقعه المر ويصارح مالك الجريدة بأنه لن يظل قنطرة يتمشى فوقها الآخرون مقابل لقب " رئيس تحرير". وأن الوقت قد حان ليعود إلى جريدة الشعب حيث يحصل على أجر محترم مقابل مقال أسبوعي واحد.
ولكن إن هو فعل ذلك سيخسر حتما لقب رئيس التحرير .
كان يمشى في الشارع الرملي الواقع غرب البنك المركزي متجها جنوبا نحو " اكلينيك" .
هناك تتألق جمهورية الفقراء وتختلط أصوات " آنكاسيرات" وبائعات النعناع ونظمات الراحلة ديمي وسدوم.
كلينيك الوجه الجميل للفقر وأصوات الجوعى ووجوه ناحلة متعففة.
ورحلات دؤوبة بين الشرق والغرب لا تكاد تنقطع إلا في ساعات الليل الأخيرة.
لم تكن نواكشوط أدمنت بعد السهر. كان الفقراء على الأقل ينامون حينما ينتهي " مسلسل ليالي الحلمية" أو تنتهي طاقة البطارية التي توفر الكهرباء للشاشة البسيطة وحيدة الألوان." أبيض وأسود".
ولعل هذه الشاشة كانت المرآة الصقيلة للعاصمة 
الناس والعمران والملابس إما أبيض وإما أسود.
أنت مثلا من سكان "تفرق زينه" فلا بد أن تكون ملونا. وما عدى ذلك فهو أبيض وأسود.
لم يكن البياض والسواد حينها وسما يحتمي به صاحبه أو يحاكم المجتمع بواسطته. كانت الألوان سيان في أفراحها،وفي عذاباتها.
مشى صاحبنا مسافة طويلة حتى أوشك أن يصل مسجد " السعودية" لاحظ من بعيد أحد المحررين في جريدة أخرى مستقلة يسلك نفس طريقه وفهم إنه لا محالة يتجه نحو اكلينيك.
تحسس السيد "س" جيبه فقد كان خبأ فيه مائة أوقية ثمنا لتذكرة العودة إلى  بواحديدة.
عاجله زميله المحرر بالسلام فقطع انشغاله بالبحث المضني عن المال في جيبه المثقوب.
بدأ المحرر يكيل الشتائم لمالك الجريدة قائلا :"  إنه يستخدمنا لتحصيل المال والعلاقات ولا يعطينا أجرا مقابل العمل المضني في الجريدة.
سكت السيد " س"  وظل المحرر يكيل الشتائم ويتوعد الإدارة فيما يتساءل السيد " س" في نفسه عن مخرج محترم يتفادى به الحرج من عدم توفر " اباص البيس".
دقائق وهما يخترقان السراب إذ صاح السيد " س"  قائلا وبفرحة طاغية :" أراع ألف" 
تنفس بعمق  ودس  المال في جيبه ثم نظر إلى  المحرر  الثائر قائلا " أنت كلت آش".
تلك الألف التي سقطت من جيب أحدهم هناك أنقذت رئيس التحرير  من ورطة كبيرة. بينما أكاد أجزم أن صاحبها الذي ضاعت عليه لا يعلم أن مثقفا وكاتبا كبيرا مثل السيد "س" كان على وشك السقوط أرضا لأنه لا يملك ،مائة أوقية ثمن تذكرة العودة إلى الكزرة.

الكاتب : أحمد محمود العتيق.

إضافة تعليق جديد