حازت قضية انهيار الأمم اهتمام المؤرخين وشغلت بال المفكرين، واجتهدت النظريات الأنثروبولوجية والاجتماعية في تحليلها عبر العصور، وتبارى الجميع في استعراض الأسباب وتحليل العوامل التي أدت إلى انهيار الأمم من جوانب وزوايا مختلفة … لكن هذا الإهتمام لم يكن محض محاولة للفهم والتحليل بقدر ما كان إجابة معرفية شاملة عن أسئلة التاريخ المؤرقة : كيف تحيا الأمم والشعوب ؟ وما آليات نهضتها، وكيف تُفهم علة إنهيارها ؟
فقد تعرضت أمم كثيرة خلال العقود الماضية إلى كثير من الأزمات كالتي تواجه العرب حاليا مثل قضايا سوء الحكم وما فيه من استبداد وفساد، وما سببه ونتج عنه مشاكل التخلف الإجتماعي والإقتصادي وانهيار للتعليم والصحة والقيَم، وغياب الحريات العامة.
فلنلق نظرة على دول المحيط العربي، ماذا بقي للعرب لم يفرغ من محتواه ؟ دول في حالة ضياع وخراب تحكمها أنظمة استبدادية وتعاني فقراً فكرياً وثقافياً لمفهوم الحرية والديمقراطية … والحال من بؤس إلى بؤس، ومن فقر إلى فقر ! فالزمن ليس عنواناً يعتمد على لعبة الإنتظار وترقب القادم المجهول … فمن الصعب على أي مواطن عربي أن ينتظر ويترقب حدوث ما لا يتوقع أو ما لا يعلم !والسؤال الذي يسأله معظم المواطنين العرب هذه الأيام وبشكل متكرر هو : إلى متى سيستمر هذا الحال من ضيق العيش ومن شلل الحياة ؟ فالأمة العربية تعاني من الإنحدار في منعطف تاريخي خطير يهدد لا فقط استقرار الكيانات القُطرية القائمة، بل سلامة الإنسان العربي وهويته مما يؤشر لكارثة تاريخية قادمة … والسؤال عن المصير يأتي دائماً بعد الإحساس بالخوف والجوع والقلق وبعد الوقوف على ضبابية الأشياء وينسل تحت عتمة ظلام كثيف … الأمة العربية إلى أين ؟
إن ما نعيشه اليوم يعكس حالة الفراغ الذي يبحث عن الإمتلاء، فقد كانت حصيلة عقود من مشروعات التنمية ( تفشياً للبطالة والفقر والظلم الاجتماعي والفساد ) .. والمنطقة العربية أصبحت الوحيدة في العالم التي لم تشهد ولم تقدّم أيّة إنجازات للبشرية .. فما زالت تنافس على المرتبة الدنيا في العالم على مستوى الإنتاجية، وما زال كثير من دولها أسيرة الإعتماد المفرط على المعونات الأجنبية، والتي كثيراً ما تتحول إلى أداة نفوذ وهدر وفساد وارتهان لمصالح الجهة الممولة، وكثير من تلك الإعانات في الغالب تكون بعيدة عن التنمية وعن الرقابة والمساءلة.
الوطن العربي في هاوية وأبنائه لا يدركون ذلك تماماً لأن الهاوية مقلوبة، ولأنهم في حالة فقدان التوازن … فآخر تقرير لبرنامج للأمم المتحده للإنماء UNDP يقول أن ثلثي العرب أصبحوا فقراء، وأن الدخل القومي للأمة العربية لا يتجاوز دخل إسبانيا، وعدد الأميين وصل إلى ٦٥ مليون وهو من أرفع النسب في العالم، ونسبة البطالة وصلت إلى ٤٤٪، ومعدل الحياة أنقص بعشرين عاماً من المعدل العالمي.
لا داعي بعد اليوم لقراءة تاريخ الدول وأسباب سقوطها وفساد قادتها، وتقاعس حكامها وانحطاط مسؤوليها … فمن ينظر إلى المزاج الشعبي داخل الوطن العربي يخلص إلى نتيجة مفادها أننا نعيش مرحلة انحطاط دائم، فلم تنحدر أمة ويتراجع دورها بين بقية الأمم بهذا القدر كما يحصل مع الأمة العربية الآن … ولو كانت هناك مراكز استطلاع موثوقة قادرة على الوصول إلى جميع الدول العربية، لتبين مدى الشعور بالقرف والاشمئزاز لدى معظم الجماهير العربية … واليوم على أرض الواقع في وطننا العربي بدأت جدرانه تهتز وتأشر للسقوط، وساكنوه من قادة ومسؤولين تقاسموا بيت المال، واستأثروا بالوليمة الدسمة ومواطنيه يجوعون و يئنون بذلّ وصبر وخنوع، ويكتفون باللعنات والشتم والسباب.
لن نزيد في نظرتنا التشاؤمية، لكننا عندما نقرأ أوراق اليوم نزداد ثقة بأن القادم والآتي أعظم، وأن الأوضاع ستزداد سوءًا داخل الوطن العربي … إنه مشهد لم يسبق له مثيل، ولم يخطر بخلد أيٍ كان، أن نعيش ونرى فيه العرب شظايا وقطع سلاح تحارب بعضها البعض ! فلم تحصل للعرب حتى في أسوأ حالات الانحطاط التي مروا بها بعد سقوط دولتهم في بغداد على أثر الإجتياح التتري.
فمنطقة الشرق الأوسط حالياً تعتبر منطقة محفوفة بمجموعة مربكة من تحديات الاستقرار السياسي، والوطن العربي يعيش اليوم على هامش التاريخ في ضوء ما يلمسه كل راصد … فمنذ مطلع سبعينات القرن الماضي دخلنا نحن العرب مرحلة جديدة خلا فيها مفهوم الدولة الوطنية، ومع نهاية ثمانينات القرن الماضي ومع إختفاء الرخاء الذي أحدثته الطفرة النفطية في معظم الدول العربية، دخلت بعدها دول عربية أزمات اجتماعية واقتصادية أخذت شكل الإنفجارات بدءاً مما يسمى انفجارات الخبز، بحيث اتسعت الهوة بين الدول الغنية والفقيرة في الوطن العربي أدى إلى انفراط عقد التوافق العربي وانهيار الطبقة الوسطى.
وبالتأكيد أن الهدف الأمريكي والصهيوني لتفتيت الأمة العربية تم التنظير له منذ خمسينات القرن الماضي بالنظر الى القومية العربية كأخطر القوميات على نفوذهم، وبالتالي أصبح المطلوب القضاء عليها بالحرب أو بإشعال الصراع الأهلي بين مكوناتها أو زرع قادة ومسؤولين يقومون بتنفيذ ذلك.
فقبل سنتين تقريباً دعى ( أليكس فيشمان )المحلل العسكري الإسرائيلي في صحيفة ( يديعوت أحرنوت ) الإسرائيلية إلى ترك العرب يتقاتلون ليقتل واحدا منهم الآخر، لأن أي تدخل إسرائيلي قد يعيد التفاف العرب على بعضهم البعض … وتطرق فيشمان للفوضى الاقتصادية والدستورية الحاصلة في الدول العربية.
فدعوة المحلل العسكري الإسرائيلي تحتاج لمن يقرأها بعمق وتمعن خصوصاً عقلاء العرب، فهل يخرج الوطن العربي من عنق الزجاجة قبل الإنفجار ؟ أم نحن ذاهبون إلى مزيد من الإنهيار ؟
كاتب اردني