كنت أيام مراهقتي، أعتقد أن مواطني دول الخليج وخاصة السعودية، مجرد أجساد سمينة مترهلة ومتخمة من فرط الأكل والنوم، يبدأ يومهم بالأكل والشرب وينتهى به؛ وأنهم جماعة من المترفين في دولة ريعية تعلف مواطنيها؛ لا يفكرون ولا يبدعون بل أنعام في حظيرة شاسعة؛ ولا أعرف بالضبط سبب تلك النظرة التعميمية للأسف، لكن قد يكون لوسائل الاعلام والأعمال الدرامية دور فيها، المهم أن رأسي كان محشو بوفرة من الأفكار النمطية.
لكن نظرتي بدأت تتغير تدريجيا نحو أفق آخر مع تطور علاقتي بالإنترنت؛ حيث أتاحت لي فرصا للعيش في جو تعددي المصادر، وأصبحت أتعرف على سعوديين لهم قصصهم وحياتهم العادية؛ يشبهون غيرهم من سكان الأرض، يكافحون ويفكرون، وتعرفت أكثر على كتاب من ذلك البلد لهم رؤيتهم المختلفة، وحين علمت أن عبد الرحمن منيف من تلك الأرض، كانت مفاجئة ولم أصدق أول الأمر.
أما اليوم فلا أخفى أعجابي ببعض شباب "السعودية"؛ الذين يسرحون ويمرحون في الشبكة العنكبوتية، ناثرين المحتوى الجيد والمفيد؛ يترجمون المعرفة ببراعة، حتى أصبحوا من نجوم الترجمة إلى العربية على الإنترنت في الفضاء العربي، وينتجون أيضا المحتوى الجيد، ذلك أنا ونظرتي التي غيرتها الإنترنت.
أما العربي الآخر الذي يكتشف موريتانيتي فله تصوراته الغريبة أيضا؛ المضحكة والمستفزة؛ وأتذكر أنني كنت حين أخبر عربيا بأني موريتاني الجنسية؛ يستغرب والسبب بسيط جدا؛ وهو أني أحدثه بالعربية أو بما يفهم وأن بشرتي غير سوداء!، هذا في حالة له علم بوجود موريتانيا أصلا؛ فالبعض لا علم له بهذه الدولة التي يعتقد بعض أهلها أنهم مركز الكون وأنهم خير أمة أخرجت للناس، بل هم "أفضل" العرب والمسلمين!، طبعا، هناك من لديه معلومات عنها وخاصة أسطورة" بلاد المليون شاعر"، وقصة انقلاباتها الكثيرة.
وأتذكر مرة مصريا قالي لي في دردشة على msn :"عجيب، بتتكلم عربي ومش أسود، مش انتوا أفارقة"، قهقهت ساعتها، وقلت، وأنتم الأوربيين إذا!.
ذلك الواقع جعلني أخرج بانطباع أن العرب لا يعرفوننا؛ رغم أننا نحن أهل موريتانيا؛ قد نخسر بعضنا في قضايا وصراعات تحدث أو حدثت منذ زمن بعيد في دول عربية لا تجاورنا؛ وقد لا يكون لها طابع إنساني أو مبدئي، لكن المهم أن تكون دولة "مركزية"؛ فنحن لا نهتم بدول الأطراف التي في وضعنا بل نترفع عنها وللأسف، طبعا أورد الأطراف والمركز بتحفظ وشيء من الامتعاض.
وقد تجد الموريتاني صاحب الهوى المصري أو الشامي أوالمغربي، وقد تصادف صاحب دكان في حي هامشي، يناقش قضايا عربية داخلية بشغف وحماس.
ويتعلق بعض نخبنا بالعرب والعروبة؛ وينتفضون حين يشكك أي كائن في ذلك الانتماء الخالص؛ وأشك أن جزء كبير من "نخبنا"، يعاني من عقدة تعالي بعض النخب والأنظمة العربية على موريتانيا والنظر لها كبلد هامشي بعيد عن المركز والتشكيك في عروبتها؛ كأن للعروبة صكوك يمنحها نظام أو مثقف، وأراهم فزعون دائما، خوفا من أن نسقط من خريطة العالم العربي بجرة قلم، فبعدنا وتواجدنا في أقصى الخريطة، عقدة تاريخية وأتمنى لا تكون أزلية.
حديثي السابق عن واقع قديم وبداياتي مع الإنترنت، واليوم ومع تقدم الزمن وتوسع الإنترنت والتشبيك بين العرب خاصة الشباب منهم؛ وكثرة وسائل الإعلام؛ كنت أظن أن الأمر قد يكون تغير بعض الشيء؛ حيث أصبحت موريتانيا تتداول في وسائل الإعلام بشكل أكبر؛ فمن قبل كنا نفرح حين نشاهد قناة أو صحيفة عربية تتناول قضية موريتانية- طبعا، موريتانيا محصورة في كليشهات قليلة مثل: العبودية، التسمين القسري، زغاريد المطلقة ولباس المرأة للسواد في عرسها والانقلابات، وللأسف بعض المؤسسات الإعلامية العربية تنظر لنا كما ينظر لها الغرب، يبحثون عن الغرائبية، انطلاقا من أفكار نمطية، باختصار ينظرون لنا نظرة استشراقية-.
لكن حين أخرج عن موريتانيا وأحتك على أرض الواقع بشباب عرب أو بمواطنين من مراحل عمرية مختلفة لا أجد أن الوضع تغير كثيرا، فلا تزال موريتانيتي محل استغراب ولا زلت أجد من يجهل موقعنا على الخريطة وإن حاول التخمين يظننا في القرن الإفريقي نعاني بطش "حركة شباب المجاهدين".، وأظن أن ذلك الأمر قد يكون لنا فيه ضلع وهو ضعف صحافتنا وضحالة المحتوى المكتوب عن موريتانيا على الإنترنت وأننا بلد بلا أيقونات شهيرة.
هذا الواقع لا يخص موريتانيا وحدها، فبقية الجنسيات العربية تجهل بعضها أو لديها أفكار نمطية مسبقة عن بعضها البعض؛ كالصورة المطبوعة عن المصريين أنهم قوم متكبرون، وهي صورة أجد أنها غير منصفة وقد يكون السبب فيها هو العاهات النخبوية الشوفينية المتعالية، التابعة لنظام مبارك التي كانت تقدم على أنها هي مصر ولاتزال، رغم أن الثورة خلخلت ذلك الحضور وفضحت أغلبها، ومن التصورات والأفكار النمطية هي أن أهل المغرب العربي مجموعة من "المستغربين"، يتحدثون الفرنسية فقط ولا يوجد فيهم من يتحدث العربية أو يكتب بها؛ رغم ما يخرج من هذه البلدان من إنتاج معرفي مكتوب بالعربية؛ وهناك فقدان للتفاهم يحدث حين يجتمع العرب؛ مثلا قد يجلس مصري أو شامي مع مغاربي ويجدون صعوبة في التفاهم؛ فأهل المشرق يقولون أن اللهجات المغاربية عصية عليهم رغم أنهم لو حاولوا الفهم سيفهمون؛ كما يفهم بعض المغاربة اللهجة المصرية بسبب الأفلام والمسلسلات والأغاني.
والمفارقة أن الشباب العربي حين يناقش ويتفاهم يكتشف أنه يشبه بعضه البعض أو هذا ما ألاحظه، له طموحات مشتركة وأمامه عوائق متشابهة، ينظر للعالم من زاوية متقاربة، فهو غاضب من واقعه وواقع دوله بل واقع العالم، وهو وضع يشتركه مع غيره من أبناء الكوكب؛ فقد تجد نفس الطرح عند شاب يجلس على كرسي قصي في أحد مقاهي العاصمة الأردنية عمان أو مقهى في وسط البلد بالقاهرة أو مقاهي شارع بورقيبة بتونس أو نواكشوط وحتى في ساحة احتجاج حراك "الواقفون ليلا" "nuit debout "في باريس.
لكنهم منشغلون بمعاركهم الداخلية وصراعهم اليومي مع الأنظمة التي تقتل ملامح الأمل في دولهم؛ فلا وقت لديهم للتعرف على آخر خارج الحدود أو الإقليم؛ إلا أن فرص الإنترنت وخاصة شبكات التواصل الاجتماعي، قد تغير مستقبلا المعادلة، لما تتيح من معرفة غير مسيطر عليها من الحكومات وغير موجهة، تسمح للشخص بتشكيل رؤاه بشكل مستقل، ولما تسمح به من سهولة اتصال وارتباط بالآخر؛ لذلك، قد يحدث تقارب أكبر بين الشعوب عبر شبابها أو مواطنيها على الإنترنت، ويخلق بينها نوع التعارف يخفف هذا الجهل والتنميط، وهو ما فشلت فيه سياسات الأنظمة العربية القمعية والفاسدة ووسائل إعلامها الموجهة؛ فتلك لم ترنو لذلك أصلا وطالما سعت لخلق شعوب مغيبة ومحبطة ومتقوقعة على ذاتها، وأحيانا تسهم في بث حساسيات بين الشعوب وذلك حسب مزاجها ومصلحة بقائها، فالديكتاتوريات تهوى خلق الأعداء والحروب الوهمية باسم الوطنية لغرض إلهاء المواطنين، ولنا في أزمة الجزائر ومصر 2009 أثناء تصفيات مونديال2010، خير مثال.