وَشَدَا الرصاصُ برَاحتَيْه قصائدا ،، خضَعت لهن بلاغة الكُتَّاب
يُطل بعض البوحِ والرصفِ التعبيري، من علياء صناعة التاريخ في جانب من أوقات الذروة التي يصفها بشار بن برد بقوله:
كأن مثار النقع فوق رؤوسنا وأسيافَنا ليل تهاوى كواكبه
فبرغم جدلية الأدوار التي يختزلها بوح اللسان وموقع السِّنان، فإن الحال تبقى شاهدة بأثر الكلمة ومواكبتها للتحولات واللحظات الفارقة إسهاما وصناعةً، فللكلمة حيز تأثيرها الذي ما انفك يقذف بالحمم تماما، كما ينجر عن الأدوار الميدانية أثرها الواقعي، فهل الفعل إلا إرادة ترفدها المشاعر التي تخضع لسلطان الكلمة، وتتوجه ببوصلتها نحو الهدف.
ومِن هنا كان أدب المقاومة صِنوا للبطولات ومحركا للطاقات وباعثا على الانتصارات، وهو ما يشكل حسما يزاوج بين ثنائيتيْ أبي تمام "السيف أصدق أنباء من الكتب" ليكرس أن الكلمة عنصر سابق ولاحق في مضمار المقاومة والتصدي والأنَفة والرفض وتحقيق كرامة الإنسان والتعبير عن الشكيمة وروح العزة.
فالرشق عبر القلم جهد أصيل تحددت فاعليته التامة منذ كان التاريخ على موعد مع أزْر المصطفى -صلى الله عليه وسلم- لشاعره بقوله "اهجهم وروح القدس معك" وبوصف الحبيب لذلك الهجاء بأنه أشد عليهم (الأعداء) من وقع النبال، وهنا بكل جلاء تأخذ الكلمة تاجَها في سياق المقاومة وتتضح قيمتها الإستراتيجية التي تصل مدى أشد نكالا من سواه بالجانب المستهدف.
وفي ظل هذه المكانة المهمة للكلمة، استمرت المشاركة الأدبيةُ منذ القديم -كما هو معلوم- عنصرا فاعلا في سياق التحديات ومواجهات اللحظات الحالكة وكانت أداة تثوير مهمة لا تقبل بالضيم وتؤسس للنصر وأنى اتجهنا في سياقنا الحضاري الإسلامي على مر تاريخه فإنا واقفون على أهازيج الكلمة ونغمها المختلط مع صفوف الجنود في ساحات الوغى.
لقد شكّلت الصورة المتحققة بذلك لوحة جذابة في مسار قراءة الواقع والتاريخ، ومن خلالها يمكننا مشاهدة اتجاهات الظروف وتمثلاتها وهي تتشكل بإملاء من الصناعة اللفظية التي تصوغ الموقف أولا أحرفا وتعابير ثم نراه عيانا بشكله التنفيذي، وذلك على الصعد المختلفة، وحتى خارج ميادين المواجهة المباشرة.
فلنا أن نعاين أحد شعراء الشناقطة القدامى وهو يجيش العواطف ويعبئ القلوب ويدق ناقوس الخطر لاتقاء الاستعمار والوقوف دون توغّله في المنطقة وذلك بشعر يدعو للمقاطعة الاقتصادية التي يرفعها المجتمع اليوم أسلوبا ناجعا نصرة للمقدسات، فلقد قام ذلك الشاعر قبل أمدٍ داعيا بدعايته الهادفة إلى ضرورة إيقاف بيع الصمغ ـالذي ينتشر في بيئته الجغرافيةـ للمستعمر المتربص بالبلاد وذلك لتقليل المدد الذي يستعين به ومحاولة لتجفيف بعض منابع إيراداته، فضلا عن رسالة العزة والكرامة التي يحملها هذا المسعى في طياته، فيقول الشاعر:
لا تعينوا بـ"العلك" (الصمغ) حزب النصارى أتعينون آثما كفّارا
وبالنظر في هذه الآفاق، نرى شاعرا آخر يسبق بالتخطيط الإستراتيجي عبر الشعر حينها أي تخطيط آخر، فقال مستنفرا قومه:
حماةَ الدين إن الدين صارا أسيرا للصوص وللنصارى
فإن بادرتموه تَداركوه وإلا يسبق السيف البدارا
ثم تنطوي حقب ويصبح الجرح المركزي الذي تلتئم حوله هموم الأمة أكبر من الحيّز الوطني وجرحا لا كالجراح، ينزف من أرض فلسطين وعلى ثرى المسجد الأقصى يثعب (يتفجر) دما فكانت الكلمة أيضا ومن كل أقطار الإسلام محركا رئيسا للدعوة للاستنفار وإحياء الضمير العربي والإسلامي الذي لا يمكن أن يداهن في هذه القضية وهو ما تترجمه بطولات أهل فلسطين المتواصلة ومساعي التحرير ومضامين الكَلِم العربي والأدب الدفاق الذي ظل أحد حراس القضية وجنودها الأوفياء، ومن القُطر الشنقيطي أيضا نواكب جلجلة النصوص البواتر وهي تنافح عن الأقصى وتحمّل المسؤولية لبائعي الأقصى:
بيد العدّو الآثِمهْ ومخططات ناقمهْ
وتخاذلٍ من عصبة فوق الكراسي جاثِمهْ
يَقضي الكرام وعنهمُ عين الرعاية نائمهْ
يا بائعا دين الهدى في أزمة متفاقمه
حاقت بشعب مسلمٍ قد بتَّ تنصر ظالمهْ
أقصِرْ فإنك بالهوى تنقاد نحو رداك مهْ
لا تركننَّ إلى العدى احذر كوارث داهمهْ
فمُقاوم الأعداء ما زالت لديه مقاومه
وغدا يشنُّ عليهمُ نيرانه المتلاطمهْ
وبين أحدث النصوص الموريتانية المكتوبة على وقع النخوة التي ترسمها روح المقاومة تسفر الكلمة عن حضورها الفتي المواكب للحظة حذو القذة بالقذة، فهذا جزء من قصيدة وليدة وقتنا الراهن جاءت أبياتها على وقع صلصلة سلاح المنافحين عن الأقصى لتصنع تناغما بديعا بين الكلمة الأدبية والخطوة الميدانية فقال الشاعر وهو يدبجها من خلال نافذة باهرة، اختار أن تكون الحوار مع شوقي سبيلا للمدح النبوي والتوسل لتفريج اللحظة:
وكان في عهدك الأقصى لنا حرَما
واليوم صرنا بلا أقصى ولا حرم
وهل قطار الحجاز اليوم منطلق
كالبرق بين السهول الخضر والديم
لولا بنو غزة الجُلى وكم ثبتوا
في مأزق من جحيم الحرب والحمم
لبّوا مناشدة الأقصى وما وهنوا
وهشّموا رأس تلّابيب بالرجم
حجارة المسجد الأقصى سلاحهم
في كل ركن من الأركان مقتحَم
ولا يُداوي جنونا إن بليت به
مثل الجنون ولا يشفي من السقم
أحمد مولود اكاه
مهتم بمجالات الإعلام والأدب