17 يونيو يوم لا كسائر الأيام، إنه الصّباح الذي يأتي قبل أوانه، فمع نسائم الفجر البريئة، يبدأ البحّارة الموريتانيون والمرتبطون بهذه المهنة التَّوافد إلى أحد أغنى الشواطئ العالمية بالأسماك، ومع انبلاج فجرِ مدينة انواذيبُ، وقليل من ضوء النّهار يكون المشهد قد بدأ في الاكتمال؛ قواربُ الصّيد التقليدي تملأ المكان وتستعدّ للإبحار، إنه أكبر موكب إبحار على طول الشواطئ الموريتانية؛ إنه مشهد افتتاح الصّيد بعد توقيفه، إنه الحجُّ إلى الأخطبوط الموريتاني!
فسيولوجيا للأخطبوط ثمانية أذرع، لا أزيد ولا أقل، لكنه في واقع أهل الصّيد والمرتبطون بهذه المهنة له أكثر من ذراع! إنه كائن المفارقات العجيبة؛ فهو من أكثر الأنواع البحرية التي تُعاني فرط استغلال حسب نتائج تقديرات المخزون السّمكي في موريتانيا، وفي نفس الوقت هو الكائن البحري الأكثر تصديرا وعائدات مادية من بين جميع الأنواع البحرية الأخرى؛ ففي دراسة إحصائية للشركة الموريتانية لتسويق الأسماك SMCP في الفترة من 1992 إلى 2015 بلغت العائدات المادية لهذا الكائن البحري لوحده – تقريبا- حوالي تريليون من الأوقية؛ أي ميزانية الدولة الموريتانية في أكبر أرقامها لسنتين وزيادة! وفي سنة 2017 حسب نفس المصدر، بلغت صادرات الأخطبوط لوحده أكثر من 38 ألف طن، أي ما قيمته أكثر من 116 مليار أوقية (332 مليون دولار).
إنّه الكائن البحري الأكثر استهدافا بالصّيد، فكل الأسطول الموريتاني للصّيد يستهدفه، من صيدد صناعي وتقليدي وشاطئي، وحتى الأساطيل الأجنبية كانت تستهدفه بالصّيد حتى 2012، حين قرّرت الدولة الموريتانية مرْتَنَة الأخطبوط ليصبح صيدهُ خالصًا للموريتانيين.
الأخطبوط الموريتاني، لايزال يُلقي بأكثر من سؤال، إنّه الكائن الذي نُسجت حوله الأساطير وأفلام السينما وقدّمته على أنه خارق الذكاء والقوة، ولكنه في الواقع كائن رخو ليّن لطيف
الأخطبوط من بين الكائنات البحرية الألذّ لحما والأشهى طعما والأكثر طراوة، وإنّي ما قرأت قول الحق سبحانه وتعالى: "وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا" إلا وتذكرت الأخطبوط، لكن الغريب حقا أنه ليس للموريتانيين حظّ من ذلك اللحم الطّري نتيجة العادات الغذائية العجيبة، وهي عادات تنظرُ إلى الشّكل الخارجي للكائن البحري أكثر من أي شيء آخر! وقد عَلِمنا أنّ الأخطبوط لم يُؤتَ حظّا من جمال الشكل، فأبعده ذلك الحظّ العاثر عن موائد الموريتانيين.
إنه الكائن الأكثر غُموضا في تنقلاته وديناميكيّة مخزونه، فرغم عديد الدراسات على الأخطبوطط الموريتاني، لايزال هذا الكائن يُلقي بأكثر من سؤال، إنّه الكائن الذي نُسجت حوله الأساطير وأفلام السينما وقدّمته على أنه خارق الذكاء والقوة، ولكنه في الواقع كائن رخو ليّن لطيف.
قليل من بيولوجيا الأخطبوط
الأخطبوط المعروف محليا في موريتانيا ب "طاكو" أو "بولب" أحد أهمّ الأحياء البحرية القاعية فيي الشواطئ الموريتانية، ينتمي الأخطبوط Octopus vulgaris إلى مجموعة اللافقاريات، شعبة الرخويات، وإلى صفّ رأسيات الأرجل، حيث يتصل الرأس مباشرة بالأرجل دون باقي الجسم (الصدر والبطن)، يتميز الأخطبوط بدورة حياة قصيرة، إذ يتراوح عمره من سنة إلى سنة ونصف وينمو بشكل سريع؛ بمعدل 11 غراما في اليوم، وفي موريتانيا تُعتبر الأفراد غير البالغة تلك التي يقلّ وزنها عن 500 غراما حيث يُحرّم صيدها، يُعرف عن الأخطبوط بأنه يتيم المولد! حيث يقوم الذكر بوضع الحيوانات المنوية في كيس لدى الأنثى ليموت بعد ذلك بعدة أشهر، ويتم تلقيح البيض داخل الأنثى، أثناء فترة حضانة البيض تمتنع الأم عن الأكل والافتراس وتتفرغ لحراسة ومراقبة بيضها حتى أنها تقوم بدفع التيار المائي نحو البيض لتأمين وصول الأكسجين إليه حتى تخرج الصغار! بتعبير آخر؛ كل الخطابيط في بحار الدّنيا يتيمة الأم وبالتالي فهي لا تُعلّمهم ولا تُلقّنهم ما اكتسبته من التّجارب في خضّم بحر متلاطم الأمواج زاخر بالكائنات البحرية التي يأكل بعضها بعضا، وإنّ في ذلك لآية!
صيدُ الأخطبوط
بدأ استغلال الأخطبوط في موريتانيا في الستينيات من القرن الماضي في المنطقة الشمالية ليشهد بعدد ذلك تطورا كبيرا، يُصطاد الأخطبوط أساسا بواسطة القدور البلاستيكية pots à poulpe وكذا شباك الجرّ القاعي، كما يُصطاد ثانويا مع المصايد الأخرى. تعاني هذه الثروة القاعية المهمة من فرط استغلال منذ عشرات السنين حسب الدراسات التي يجريها المعهد الموريتاني لبحوث المحيطات والصيد IMPRO، لذلك اعتمدت الوزارة المعنية بناء على تلك الدراسات ما يعرف ب "توقيف الصّيد"arrêt de pêche أو الرّاحة البيولوجية، والتي تستهدف حماية هذه الثروة المهدّدة عن طريق توقيف صيدها في فترتين من السنة تُقابلان فترات التّكاثر ونموّ الأفراد غير النّاضجة.
تشير آخر الدراسات إلى تحسّن في ثروة الأخطبوط، إذ تؤكد المؤشرات المتعلقة بالكتلة الحية، وكذا بالمردودية وأحجام الأفراد المُصطادة تعافي مخزون الأخطبوط، وإعادة بناء تدريجي للمخزون، لكن هذا التّحسن يظل دون المأمول إذ تبقى الكميات التي يتم صيدها سنويا تفوق قدرة المخزون على البقاء والتجدد.
قليل من الاقتصاد
تُعتبر اليابان واسبانيا من أهم الدّول التي يُصدّرُ إليها الأخطبوط، حيث يعتبر الأخطبوط من الوجبات الشائعة والمفضلة لدى تلك الشعوب نظرا لطعمه اللذيذ وقيمته الغذائية المرتفعة وغناه بفيتامين B12 و B3، ففي إحصائية للشركة الموريتانية لتسويق الأسماك كان الحجم الكُلّي لصادرات رأسيات القدم التي ينتمي إليها الأخطبوط من 1992 إلى 2015 حوالي 778 ألف طن، يشكل منها الأخطبوط لوحده حوالي 80 في المائة، في نفس هذه الفترة كانت مداخيل جميع الأنواع البحرية التي تم تصدريها بواسطة الشركة الموريتانية لتسويق الأسماك حوالي 4.24 مليار دولار، 88 في المائة من تلك القيمة جاءت من رأسيات القدم، شكّل الأخطبوط لوحده 3.23 مليار دولار، أي ما نسبته 76 في المائة من كل الصّادرات السمكية في موريتانيا في هذه الفترة.
ذلكم قليل من خبر الأخطبوط الموريتاني، الذّهب الحي.. خُلاصته أن ليس للأخطبوط ثمانية أذرع فحسب، بل له أكثر من ذلك، أذرع تضرب بسهم في السّياسة والاقتصاد والاجتماع والعلم.. فلا يكاد يسلم منه مجال؛ عليه عُلّقت الآمال وعاش الرجال وبنوا ثرواتهم، حطّم آمال آخرين وخيّب التوقعات في أكثر من مرة، لكن ذلك الكائن الرّخوي الجسم كان وسيبقى أحد أهم وأشهر الكائنات البحرية في موريتانيا، أوْلاها بالشّفقة من كثافة جُهْد الصّيد، وأحقّها باستمرار وتعزيز إجراءات الحماية، وإن جاز شكرُ كائن بحري موريتاني -وهذا شيء قد يكون بلا معنى وقد يكون كلّ المعنى- فهو أولاها بالشكر: شكرا أيها الأخطبوط الموريتاني، فإن من ورائك أرزاق الناس وحياتهم، من ورائك آلافُ البّحارة وآخرون من خلفهم وأنت صابر "محتسب" تُعاني كثافة جهد الصّيد وتنوّعه منذ عشرات السنين.
حمود الفاظل مدون وكاتب موريتاني،