ظلَّ الموريتاني ينظر للبحر على أنه مجرّد جسم غريب يستلقي بعيدا في وِحدَته الأبدية، وتضع كتلته المائية الضَّخمة حاجزا جغرافيا صارما لامتداد اليابسة ناحية الغرب؛ لذلك لم يتغنَّ الشعراء الموريتانيون بالبحر، لقد كانت الجبال والهضاب والوديان وغيرها من أشكال الطبيعة وتمظهراتها أكثر حضورا منه في الوجدان المجتمعي والذاكرة الأدبية، رغم أن البحر يضجُّ في باطنه بالثروات والأرزاق من أسماك ومعادن، وتلُفُّ ظاهره زرقة فاتنة تسحر العين حين تذوب في أحضانها أشعة الشمس الذهبية، وفي ملمحه العام من مظاهر الجمال والاتّساع والقوة ما يُغري الأديب باستدعاء الصُّور البديعة، لكنها النظرة الجافية لابن الصّحراء للماء ومتعلقاته طَبَعَت العلاقة بالبحر؛ فكان ارتباط الموريتاني وحنينه مقتصرا على الجزء اليابس من أرضه، مُولّيّا ظهره ووجدانه للبحر.
ومع أن البحر الموريتاني يمتدُّ على طول أكثر من 700 كلم، وتشغل مياهه مساحة 234 ألف كلم مربع، ويُحاذي مدينتين من أهم وأكبر المدن الموريتانية (انواكشوط وانواذيب) ظلّ هذا الكائن الضّخم في منأى عن التفاعل الجَمعي، وكانت حالاتُ التّلاقي التي ارتبط أهلها بالبحر وأنتجت تقاليدها البحرية الخاصة محدودة جدا، إذ اقتصرت على مجموعتي "إيمراكن" في الشمال و"الولوف" في الجنوب. ولعلّ من الملاحظات العجيبة الدّالة في هذا السّياق؛ أنّ شواطئ الدُّنيا كلها تضجُّ بالناس والعمران والمنشآت السياحية، مما أصبح يشكل تحديّا عالميا توضع له المقاربات التسييرية (ICZM) للتخفيف من آثاره السلبية على البيئة البحرية، غير أن شواطئ موريتانيا تكاد تكون الاستثناء، فهي جرداء مقفرة، إلاّ ما كان من قُرى ضئيلة متناثرة لا تعكس حالة عامة ولا ثقافة بحرية راسخة.
الثّراء بالأنواع البحرية
من "الرأس الأبيض" شمالا على التخوم المغربية، إلى "اندياغو" جنوبا على الحدود مع السنغال، تمتد السواحل الموريتانية مُطلّة على المحيط الأطلسي، حبا الله المياه البحرية الموريتانية ببعض الخصائص البيئية والفيزيائية الفريدة، مما جعلها واحدة من أغنى الشواطئ العالمية بالأسماك والأنواع البحرية الأخرى، وليس ذلك من المبالغات؛ على غرار بعض الألقاب الكبيرة الأخرى التي وُصفت بها المنطقة، بل هو حقيقة علمية مسطورة في أهم الكتابات والوثائق العلمية التي تتناول البحر الموريتاني بالرّصد والدراسة.
ففي معلومات أولية غير نهائية (1) تم إحصاء أكثر من 700 نوعا من الأسماك، منها 170 قابلة للتسويق التجاري، 33 نوعا من الثدييات البحرية من أصل 34 هي كل ما تم رصده في شواطئ إفريقيا الغربية، 200 نوعا من الطحالب وأكثر من ذلك من الطيور البحرية. وتشكل محمية "حوض آركين" أحد أكبر الأماكن العالمية لتجمعات الطيور، تحُجُّ إليها من أصقاع الدنيا لقضاء موسم الشتاء، ويُؤوي "الرأس الأبيض" أهم مستعمرات عجل البحر الأبيض المتوسط Monachus monachus وهو أحد الثدييات البحرية الأكثر تهديدا بالانقراض على مستوى العالم.
الغِنى المُنبثق من الأعماق
تتميز المياه البحرية الموريتانية بعدة خصائص بيئية، تجعل منها واحدة من أغنى المناطق البحرية في العالم بالأسماك، ولعل من أهم هذه العوامل ما يعرف بظاهرة الأبويلينغ upwelling، أي صعود الكتل المائية الباردة من الأعماق إلى الأعلى، مُحمّلة بالمُغذّيات، مما يتسبب في وفرة العناصر المغذية على السطح، الأمر الذي يرافقه وفرة في نمو العوالق النباتية مستفيدة من ضوء الشمس، وكذا نمو الكائنات الحية الدقيقة الأخرى التي تعدُّ بداية للسلسلة الغذائية مما ينعكس على باقي الكائنات الحية كالأسماك تنوعا ووفرة.
نِعمةُ اللُّقيَا على ميعاد
في المياه الموريتانية يلتقي التيار الكناري البارد القادم من الشمال بالتيار الغيني الحار القادم من الجنوب، هذا اللقاء على ميعاد يُوفّر بيئة ملائمة لنموّ وتكاثر العديد من الأسماك، سواء تلك الباحثة عن الدفء أو البرودة، أو تلك التي تبحث عن ظروف مناخية خاصة نتيجة لحركة الجبهة المدارية من الشمال إلى الجنوب، ففي هذه المنطقة تتكثّف أسراب السّردين التي تستقطب باقي عناصر السلسلة الغذائية من المفترسات، كالطيور البحرية وأسماك القرش والحيتان وأسماك السيف، مما جعل المياه الموريتانية تحتضن تنوعا بيولوجيا غنيا وفريدا من نوعه.
المحميّة والشّعاب المرجانية
من العوامل الأخرى التي تُسهم في هذا الغنى والثراء بالأنواع البحرية، وجود محمية حوض آركين التي تُعتبر واحدة من أكبر المحميات البحرية في شمال إفريقيا، يُحرّم فيها صيد القوارب ذات المحركات، وتلعب دورا هاما في المحافظة على التنوع الأحيائي في المياه الموريتانية، حيث تشكل موئلا للعديد من الأنواع البحرية، تفِدُ إليها للغذاء والتكاثر. وتشكل الأعشاب البحرية التي تزخر بها المحمية دورا هاما في الإنتاج الأولي وغذاءً للكثير من الأنواع البحرية كالأسماك والثدييات والطيور البحرية. كذلك من عوامل الغنى الأخاديدُ البحرية التي تؤوي الشّعاب المرجانية، حيث اكتشف في موريتانيا مؤخرا على سفح المنحدر القاري وعلى طول أكثر من 400 كلم وعمق 600 متر واحدة من أكبر الشعاب المرجانية في المياه الباردة العميقة في العالم (2) وتُوصف الشعاب المرجانية في الأدبيات العلمية بأنها "مهندسو النظام البيئي" نظرا لدورها الكبير في إغناء المنطقة وما تستقطبه وتحتضنه من تنوع بيولوجي كبير.
تقديراتُ الثروة السمكية
تزخر الشواطئ الموريتانية بالعديد من الأنواع البحرية من أسماك ورخويات وقشريات وأنواع أخرى، ففي المياه الموريتانية وفي بيئة فريدة، يلتقي الأخطبوط مع الكُوربين وسمك موسى وأسماك القرش والحبّار وسلطان إبراهيم والنّازلي والجمبري وأسماك السّردين وجراد البحر والأنشوفة وأسماك التونة وسمك البُوري والمرجان وغير ذلك من الأنواع البحرية النّبيلة وأخرى دون ذلك، وتتراوح القدرة الإنتاجية السنوية من الثروة السمكية الموريتانية ما بين 1.5 إلى 1.8 مليون طن (3) يمكن صيدها سنويا من أسماك السطح والأعماق مع المحافظة على قدرة المخزون في التجدد بشكل طبيعي.
إن هذه الوفرة الفريدة والقدرة الإنتاجية المُعتبرة ظلت في منأى عن الاستغلال المُثمر، فأغلب الموريتانيين، خصوصا سكان المناطق الداخلية، لم يتذوقوا في حياتهم من أسماك هذا البحر المعطاء سوى أنواع غير نبيلة وفي السنوات الأخيرة فقط، ولا يعرفُ الموريتاني إلاّ بضعة أنواع تعدُّ على أصابع اليد من بين أكثر من 700 نوع بحري، كما أنّ هذا الموريتاني أيضا لا يعرفُ شيئا عن الرخويات؛ وهي ألذُّ الأنواع البحرية وأشهاها على الإطلاق.
ثقافة غذائية فقيرة على ضفاف بحر زاخر
هذه الحالة ما هيّ إلا نتيجة الثقافة الغذائية البدائية لدى الموريتاني؛ ثقافة تنظر إلى شكل السّمكة الخارجي كواحد من أهم عناصر الاختيار لتكون على مائدة الطعام، فإن كان النوع البحري لم يُعط حظُّا من جمال الشكل كالأخطبوط مثلا، فإنه حرام على موائد الموريتانيين، رغم أنه لحم طريّ غنيُّ بالبروتينات يُسيل لعاب اليابانيين والأوروبيين وغيرهم من الشعوب ذات الثقافة الغذائية السليمة، إن هذه الثقافة البحرية الفقيرة ألقت بظلالها الوارفة على علاقة الموريتاني بالبحر ونظرته لثروته السمكية مقارنة بباقي الثروات الحيوانية.
أما التصنيع وتطوير المنتوجات البحرية فيكفي من بؤس حاله أنّه من بين آلاف أطنان الأسماك يتم صيدها سنويا، لم تستطع موريتانيا بعدُ أن تُصنّع من تلك الكميات الهائلة من الأسماك علبة سردين واحدة لا يتجاوز وزنها بضعة غرامات! وحتى مهنة الصّيد بقيت في منأى عن الموريتاني، الموريتاني الذي نقّب في باطن الأرض بحثا عن المعادن، وطَار إلى كل بقاع الدُّنيا تتبُّعا لكل أصناف الرّزق؛ إنها باختصار المفارقة الحزينة المستلقية أبدا على هذا الجزء من المحيط الأطلسي، إنه ثراء البيئة وفقر الإنسان، وليس في الأفق القريب ما يُبشّر بزوال هذه المفارقة؛ فالثقافة البحرية للإنسان الموريتاني لا تزال ضحلة فقيرة، سواء في أصل النظرة للبحر وأسماكه، أو في الثقافة الغذائية المُوغلة في استهلاك اللحوم الحمراء، كما أنّ تسيير الثّروة السمكية لا يزال يطبعُه التّعثر، والشواطئ التي كانت تُوصف في الأدبيات العلمية بأنها من بين الشواطئ الأغنى بالأسماك يتهدّدها اليوم الاستغلال المُفرط وتستقطب عشرات الأساطيل من بلدان شتى من أمم الدّنيا، ممّن دفعهم نفادُ المخزونات السّمكية في مياههم البحرية للصّيد المكثّف في المياه الموريتانية.
حمود الفاظل