ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما!!

10 ديسمبر, 2021 - 22:32

طغاة هم حكام بلداننا العربية والإسلامية الذين أذلوا شعوبهم، وامتلكوا رقابها، وأصروا على حكمها رغما عن إرادتها عقودا متطاولة، كأنما ورثوا عرش امتلاكها عن آبائهم وأجدادهم!.. لكنهم طغاة أيضا أولئك الذين لا يملكون ما يقدموه لشعوبهم سوى تحريض شبابنا على القيام بتصرفات لا يتمتعون هم حتى بشجاعة التفكير فيها!

إنهم حرباوات لا يملكون سبيلا لتحقيق مآربهم غير التحريض الماكر والتغزل المخادع ب"شجاعة" شبابنا و"جرأتهم" في الإقدام على ممارسات وأفعال لا يكسبون من ورائها إلا أن يخلقوا لأنفسهم ولمجتمعهم وذويهم معاناة جديدة تنضاف لما أرهقتهم به طاحونة القهر والإذلال والتهميش التي لا ترحم!

لا تصدقوهم أبدا (معشر شبابنا الطيب)، ولا تثقوا في شيء مما يزعمون؛ قولوا لهم: لا تحرضونا ولا تستغلوا حماسنا وصدقنا وصدمتنا.. لا تجعلوا من أجسامنا الندية ولحومنا الطرية سلما ترتقوه لبلوغ مقاصدكم مبتورة الصلة بآمالنا وأحلامنا!

قولوا لهم: ما منعكم يا ساسة العجز والمزايدة  من الالتفات إلى أجسادكم الممتلئة، وأجسامكم المكتنزة؟ أم أنها فولاذ لا يفت في عضده إلا نار الجحيم!؟

لا تحرقوا (معشر شبابنا الغالي) أجسادكم بالنار؛ فإنه لا يحرق بالنار إلا ربها.. ولا تهلكوها فقد نهاكم عن ذاك ربكم؛ حين حذر وأنذر: "ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة"، ولا تريدوا قتل أنفسكم وقد أمر الله بإحيائها ونهى عن قتلها: "ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما".

سامحكم الله وعفا عنكم وشفاكم، وإلى سبيل الرشد هداكم.. أما ترون أنكم –بهذه الأعمال- إنما تكشفون عن حاجة مجتمعاتنا وبلداننا إلى تغيير أولوياتها الراهنة لتجعل على رأسها ضرورة التصدي الصارم والفوري لتيار الفكر المتطرف الجارف (ولا أقصد التيار السلفي التكفيري، رغم خطورته غير المنكورة) وإنما –وبالأساس- تيار الفكر الإلحادي الشيوعي والعلماني الذي لا يقيم اعتبارا لدين ولا إله ولا شريعة، لا لبعث ولا نشور، لا لحساب ولا عقاب! إنه ذلكم التيار الذي تغذيه مجموعات سياسية علمانية، انتهازية رثَّة، تعرفونها في موقفها المراوغ والمريب اتجاه ديننا الحنيف؛ حيث هي لا تكاد تذكره بخير ولا بشر، إلا أن تلوك أمام الناس تلك الكلمات الكبيرة المطاطة عن قدسية الدين وعن كونه عنصر وحدة والتقاء بين كل المواطنين، ثم لا تزيد، وإذا سألتهم عن مكانة هذا الدين في حياة المسلم وعما إذا كان يجب أن يتحول إلى منهج سلوك وحياة لدى المسلمين، دخلوا بك مباشرة على خط المراوغات، وجروك إلى حديث لا أول له ولا آخر عن "التطرف الديني"، و"مقتضيات العصر" ومؤسساته الدولية، وما "أبدعته" هذه المؤسسات من شرائع ومناهج ومحاكم وفلسفات "كونية" لا يستطيع الإفلات من سطوتها إلا "المتخلفون" المصرون على العيش "خارج زمانهم"، و"العاجزون" عن فهم مقتضيات "عصرهم"! ثم يأخذون في الترويج لمسلكيات وأفعال وممارسات لا يقبلها هذا الدين الذي لا يملون الحديث عن عظمته وقدسيته، ولكن شريطة أن لا يتدخل في شؤون الناس "الخاصة"، وأن لا  يضع قيدا على "حرياتهم الأزلية".

إنه الوجه الآخر للتطرف: تطرف باسم الدين يُنصِّب أصحابُه أنفسَهم مُلاكا حصريين للعلم ومَلكات الفهم، ومختصين مبرزين بحق التأويل وإدراك مقاصد التنزيل.. ثم يُكَفِّرون كل من خالفهم.. وتطرفٌ باسم "العلمانية" و"مقتضيات العصر" ينصب أصحابه أنفسهم معاول هدم لجوهر هذا الدين ومنهجه في الحياة حتى وإن "تكرموا" فأبقوه رسما، ووسما، وذكرا.. وجسدا لا لب له!

أمن الظلم اشتكيتم يا أحبتي؟ فأعلموا أن الظلم ظلمات شاوية يصلاها أصحابها يوم القيامة، وأن "أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر". وشتان ما بين "كلمة الحق" و"فعل الخطأ"!

أم هو تعبير عن موقف سياسي بأسلوب عصري و"موضوي"؟؛ فاعلموا إذن "أن من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد".

واهم جدا من تصور أن الذي حدث في تونس كان سببه إحراق البوعزيزي نفسه، بل هي ثورة شعبية عارمة ما كان لها أن تكون لو لم تتوفر لها كل الأسباب الموضوعية من بطالة منتشرة، وفقر عام مدقع، وظلم متفاحش لا يقف عند حد، ونظام مستبد متسلط يحلم بالخلود، وتكميم للأفواه لا يعرف الحدود، وشعب ناضج يعرف متى يثور، وكيف يقود وكيف يسود؛ فكانت تلك الثورة الفريدة التي أسهم فيها جميع التونسيين: كل حسب طريقته المتماشية مع مستوى نضجه، وفهمه، ودرجة وعيه؛ فعبرت قلة -تعد على أصابع اليد- بأسلوب "إحراق الأنفس"، وعبرت قلة أخرى بالعنف والتدمير والتخريب، بينما عبرت الأغلبية الغالبة الناضجة بالتظاهر السلمي، والاحتجاج السلمي، والعصيان المدني السلمي..

وبإرادة هذه الفئة الأخيرة وفعلها الحر الشريف تحقق ذلك التغيير التاريخي؛ فكنا أمام ثورة، ولو فعل التونسيون كما فعلت الفئتان المتقدمتان لما كان ما كان، ولكنا أمام أرض محروقة، وحالة اختفاء بلد بكامله من سطح الخارطة.

شفاكم الله يا إخوتي وأحياكم، وفي الدارين أنجاكم.. وإني لأعرف أن فيكم من هو أفقه مني بما أردت التذكير به، ولكن "قدر الله وما شاء فعل". واعلموا أنني بهذا الكلام إنما أردت التنبيه لحقيقة تيار فكري "علماني" متطرف ومتعاظم لم تكونوا أنتم سوى طلائع ضحاياه، وأتمنى أن تكونوا آخرها. ولست أملك لنفسي، ولا لأحد غيري سوى الصدق في النصح واتباع الأسباب، تبصرة وذكرى لأولي الألباب!

بقلم محفوظ الحنفي

ملاحظة:
أصل هذا المقال كتبته ونشرته عام 2011 بمناسبة حادثة حرق المرحوم يعقوب ولد دحود لنفسه، تغمده الله بواسع رحمته
تذكرته اليوم بمناسبة إحراق أحد شباب حركة "النهضة" التونسية لنفسه في مقر حزبها بسبب ما قيل إنه سوء تقدير وعدم تفهم من قادة الحركة لظروفه الصعبة..