يكشف تحقيق "العربي الجديد" عن تمييز بحق مرضى موريتانيين حصلوا على شهادة فقر رسمية لكنّ ملفات علاجهم في الخارج توقفت، رغم انطباق الشروط الصحية على حالتهم، بينما يحظى نافذون بفرص بفضل ضغوط حكومية.
-تدهورت حالة الموريتاني اعمر محمدن ولد اعل الصحية، بسبب عدم تمكنه من السفر إلى تركيا للعلاج من مرض الفشل الكلوي بعد رفض المجلس الوطني للصحة استكمال العمل على ملفه لـ"الرفع الطبي إلى الخارج"، رغم إحالته من قبل وزارة الشؤون الاجتماعية والطفولة والأسرة مطلع يناير/كانون الثاني 2020، متضمنا توقيع 3 أخصائيين أكدوا ضرورة علاجه في الخارج وظهور كلمة (مستعجل) في ملخص حالته، بحسب ما يشترطه الصندوق الوطني للتأمين الصحي (أكنام)، حسب ما يقول، مردفا بحزن: "أحتاج لزرعة كلية سيتبرع بها شقيقي محمد".
وفي 18 فبراير/شباط تقدم ولد اعل بشكوى إلى وزير الصحة الموريتاني محمد نذير ولد حامد بعدما رفض ملفه من قبل المجس الوطني للصحة، بحجة عدم موافقة الوزير على ذلك، كما يقول، مضيفا أن الوزير وجه المجلس حينها باستكمال ملف الرفع الطبي الخاص به، لكن المجلس ما زال يرفض إحالته إلى صندوق التأمين الصحي، ما يهدد حياته.
وتستكمل ملفات غير المشمولين بالتأمين الصحي (قائمة التأمين الصحي تشمل موظفي الدولة، والمنتسبين للجيش وشركات من القطاع الخاص) في وزارة الشؤون الاجتماعية بعد حصول أصحابها على شهادات فقر من إحدى البلديات المحلية، وفق ما أوضحه لـ"العربي الجديد"، محمد الحسن الدوه رئيس مصلحة المساعدة الاجتماعية التابعة للوزارة.
حرمان الفقراء
رفض المجلس الوطني للصحة 37 حالة من 72 ملفا تمت إحالتها من وزارة الشؤون الاجتماعية إلى المجلس في عام 2019، وفق ما يقول الدوه. ويبرر سيدي محمد ولد صالحي، رئيس المجلس الوطني للصحة، سبب رفضه لملفات الرفع الطبي إلى الخارج لاعتبارات عدة، ومنها الحالات الميؤوس منها، كونها حالات متقدمة، ولا يمكن علاجها، وإمكانية علاج المريض في المستشفيات الوطنية والملفات غير المكتملة كعدم وجود توقيع طبيب متابع للحالات، مضيفا أن المجلس أحال 314 رفعا طبيا إلى صندوق التامين الصحي في عام 2019.
تبرير ولد صالحي، يدحضه الدوه بالقول إن "الملفات التي تتم احالتها من قبل وزارة الشؤون الاجتماعية إلى المجلس الوطني للصحة تكون مكتملة وموقعة من قبل 3 أخصائيين يؤكدون عدم إمكانية علاج الحالات في المستشفيات الوطنية".
رُفضت ملفات 37 مريضاً حصلوا على شهادات فقر في 2019
وبهدف "الاستفادة من رفع طبي إلى الخارج يتحمله التأمين الصحي، يجب أن يكون المريض مصابا بمرض لا يمكن علاجه في موريتانيا" حسب ما نصت عليه المادة الثانية من المقرر المشترك رقم 0971 الذي يحل مكان المقرر المشترك رقم 130 /م س/م ف/م ف ب بتاريخ 2010 المحدد لشروط الرفع الصحي إلى الخارج بالنسبة للمؤمّنين من طرف الصندوق.
لكن الصندوق الوطني للتأمين الصحي، خالف تلك المادة من خلال إنفاقه على شخصين أكثر من سبعة ملايين أوقية موريتانية قديمة (182 ألف دولار أميركي) في العامين 2015 و2016، رغم إمكانية علاجهما في مشافي موريتانيا، وفق ما وثقه معد التحقيق عبر تقرير محكمة الحسابات (هيئة عليا مستقلة لرقابة الأموال العمومية) والصادر في يوليو/تموز 2019، بينما بلغت تكلفة الرفع الطبي في الخارج خلال ثلاث سنوات فقط، ثلاثة مليارات أوقية (81 مليوناً و110 آلاف دولار)، بحسب الموقع الرسمي لصندوق التأمين الصحي.
مجاملات للنافذين
قابل رفض المجلس الوطني للصحة لملف ولد اعل، ومرضى آخرين أحيلت ملفاتهم من وزارة الشؤون الاجتماعية إلى المجلس الوطني للصحة في عام 2019، الرفع الطبي لأشخاص لا تتضمن ملفاتهم بعض الوثائق التبريرية لذلك، وفق ملاحظات تقرير محكمة الحسابات الصادر في يوليو/تموز2019، ومنهم "المؤمَّنة رقم (53607) تم الرفع لعلاجها في إسبانيا ثلاث مرات. الأول في 11 فبراير/شباط 2015. والرفع الثاني في 31 أغسطس/آب 2015، بناء على مختصر طبي مكتوب على ورقة عادية بدون ترويسة ولا تحمل توقيع كاتبه ولا الطبيب المعالج. والرفع الثالث في 24 أغسطس 2016 معتمدا على التزام موقع من طرف المستفيدة (14 عاما)، والتي حصلت على أربعة ملايين و79 ألف أوقية قديمة (109 آلاف دولار) من رفعين فقط"، وفق ملاحظات تقرير محكمة الحسابات ذاته.
تكلفة الرفع الطبي للخارج أكثر من ثلاثة مليارات أوقية خلال ثلاث سنوات
وبيّن فحص هذا الملف وجود الطابع المجامل انطلاقا من الاعتبارات التالية: "اعترف الصندوق ضمنيا بالطابع المجامل لهذا الرفع وذلك حين ادعى دون دليل أن المستفيد من الرفع ضمن الأشخاص الذين تم رفعهم بناء على تعليمات الدولة، وهناك مؤشرات إضافية تؤكد عدم شرعية استفادة هذا المؤمَّن من الرفع ثلاث مرات إلى إسبانيا، وفق تقرير المحكمة، والذي أكد على عدم احترام المادة 3 من المقرر المشترك رقم 0971 الذي يلغي ويحل محل المقرر المشترك رقم 130 /م س/م ف/م ف ب بتاريخ 2010 المحدد لشروط الرفع الصحي إلى الخارج بالنسبة للمؤمّنين من طرف الصندوق، وخاصة في ما يتعلق بمعالجة ملف هذه المؤمّنة".
وحددت المادة الثالثة من ذلك المقرر الوثائق الضرورية لكل رفع طبي إلى الخارج، ومنها: "ملخص طبي موقع ومختوم من طرف طبيب متخصص يعمل في مؤسسة صحية متعاقدة مع الصندوق، ومصدق من طرف فريق طبي يتألف من ثلاثة أعضاء على الأقل من نفس التخصص، بعد معاينة المريض".
وفي رفع طبي مشابه، سجل تقرير المحكمة ذاته مخالفة "الرفع للمؤمّنة رقم (320101013094) إلى المغرب في 15 يناير 2016، والتي أنفق عليها الصندوق مليونين و927 ألف أوقية قديمة (76 ألف دولار)، توزعت بين 400 ألف أوقية (10421 دولارا) كمؤونة (مصاريف إقامة) وتذكرة مريض على سرير (نقل المريض في وضع الاستلقاء) مليون و600 ألف أوقية (41858 دولارا) وتذكرة مرافق 168 ألف أوقية (4386 دولارا) وتكاليف العلاج في الخارج من الحساسية والالتهابات 734 ألف أوقية (19130 دولارا). وأظهر ذلك التقرير "غياب بعض الوثائق التبريرية من ملف المؤمّنة، ومنها تحديد إفادة طبية موقعة من طرف طبيب مستشار للصندوق"، فضلا عن "سفر المريضة على سرير بمرافقة بعثة طبية، وشخص من عائلتها، وهو ما يعرض الصندوق لتحمل تكاليف مرتفعة في ما يتعلق بالنقل".
ويشكل ذلك خرقا واضحا لمقتضيات الفقرة 3 من المادة التاسعة من المقرر المشترك، والتي تنص على أن وضعية النقل بوضعية الجلوس أو شبه الجلوس أو على السرير، تتم الموافقة عليها من طرف الصندوق بناء على مقترحات الهيئات الوطنية المختصة" وفقا لتقرير محكمة الحسابات.
اعتراف رسمي بالمخالفات
واجه معد التحقيق، المدير العام للصندوق الوطني للتأمين الصحي، دب سيدي زين، بما ورد في تقرير محكمة الحسابات من مخالفات في عمليات الرفع الطبي. فرد قائلا إن "الصندوق غير معني بها، لأن السلطة التقديرية في الرفع الطبي إلى الخارج تعود للمجلس الوطني للصحة. أما الصندوق فهو جهة تنفيذ فقط وغير معني باتخاذ قرارات الرفع الطبي خارج البلاد بشكل مباشر".
ويعترف رئيس المجلس الوطني للصحة، سيدي محمد ولد صالحي، بوجود مخالفات من هذا النوع، قائلا إن النافذين يحظون بتسهيلات أكبر في تمرير الملفات الصحية، لكنه يؤكد أنه لدى وصول ملفاتهم للمجلس "يتعامل معها بمهنية"، مستدركا بالقول:" إذا سهلنا ملفا صحيا لشخصية نافذة، فعلينا في المقابل أن نسهل ملفا لمواطن".
الفقراء ينتظرون ملك الموت
أكد محمد الحسن الدوه، رئيس مصلحة المساعدة الاجتماعية، أن متابعة الإجراءات لاستكمال ملف الرفع الطبي للعلاج في الخارج تستغرق شهورا، إذ يقضي المتقدم لشهادة الفقر شهرين حتى يتمكن من استخراجها وينتظر شهرا آخر بعد إحالة ملفه إلى المجلس الوطني للصحة، معلقا بالقول: "يموت بعض المرضى قبل استكمال ملفات الرفع الطبي للعلاج في الخارج".
وهو ما يخشاه الموريتاني اسغير علي، والذي ينتظر استكمال ملفه في وزارة الشؤون الاجتماعية والمجلس الوطني للصحة بعد استخراجه شهادة الفقر من بلدية مقاطعة تيارت بالعاصمة الموريتانية نواكشوط في 31 أغسطس الماضي، حتى يتمكن من السفر واستئصال ورم سرطاني من عنقه، لكنه يتخوف من عدم حصوله على الرفع الطبي كما حدث لسابقيه، حسب ما يقول لـ"العربي الجديد".
خشية المرضى وذويهم عدم ضمان موافقة المجلس الوطني للصحة على الرفع الطبي، أدت إلى الإحجام عن التقدم بطلب الرفع الطبي للخارج، وفق ما وثقه معد التحقيق مع ذوي ثلاثة مرضى، ومنهم الموريتاني محمد عالى، الذي لم يتقدم بطلب إلى المجلس الوطني للصحة، خوفا من المماطلة في الحصول على الرفع الطبي لعلاج نجله يوسف (3 سنوات) الذي يعاني من مرض فقر الدم المنجلي (وراثي نتيجة حدوث تغير في بروتين كريات الدم)، كما حدث معه في الرفع الطبي الأول في يناير/كانون الثاني 2019، والذي حصل عليه بعد وساطات، رغم حقه القانوني في الاستفادة من خدمات التأمين الصحي، وفق ما يقول لـ"العربي الجديد"، مضيفا أنه اكتفى بمواصلة علاج ابنه الذي يحتاج للرعاية الصحية الدائمة، في مشافي موريتانيا.
بالمثل فعلت عائلة الطفلة سهام (5 أشهر) والتي تعاني من ثقب في القلب وتحتاج لعملية جراحية عاجلة في الخارج، إذ فضلت عدم اللجوء إلى إجراءات الرفع الطبي والذي يستغرق الكثير من الوقت، من دون ضمان بقبول الملف والتكفل بالعلاج، وفق خالها سيدي أحمد والذي أكد لـ"العربي الجديد" أن العائلة اكتفت بمراجعة المستشفى الوطني لأمراض القلب لمتابعة حالة الطفلة.