"قيل لحكيم ذات مرة: أحقًّا يُفضِّل الرجالُ النساءَ الثرثارات على الأُخرَيات؟ قال: وأيُّ أخرَيات؟!".
تنتشر الكثير من التنويعات على هذه "المقولة" في أوساط وسائل التواصل الاجتماعي العربية، وعلى الرغم من أنها عادة ما تُستخدم لأغراض التهكُّم والضحك، فإنها تجد مكانها بوصفها عقيدة ثابتة في أذهاننا تقول إن النساء بطبعهن ثرثارات، الأمر الذي بدوره يُثير نوعا من "الرأي العام"، تُشارك فيه النساء كالرجال، يضع المرأة في قالب الأكثر كذبا ونميمة مقارنة بالرجال.
الغريب أن هذا النمط من القناعات عن المرأة عابر للثقافات، بمعنى أنه لا يخص مجتمعا بعينه، بل إن لوان بريزيندين، مؤسسة عيادة النساء والهرمونات في جامعة كاليفورنيا، قد نشرت في عام 2006 كتابها "دماغ المرأة" (The Female Brain) الذي أشارت فيه، دون أدلة علمية واضحة، إلى أن المرأة تتحدث يوميا عدد كلمات أكبر من الرجل بفارق ثلاثة أضعاف، لكن هل هذا الادعاء صحيح؟
اهتمت بعض الجوانب البحثية بالفعل بالفروق بين الرجل والمرأة في طبيعة الكلام اليومي، تُفيد هذه الدراسات بالأساس في نطاقات البحث عن الفروق الجندرية، الأمر الذي قد يُفيد بدوره في نطاقات متنوعة تبدأ من الطب وتصل إلى التسويق، بمعنى أن الشركات يمكن أن تُحسِّن من مبيعاتها عبر فهم أفضل لطبائع عملائها.
في العام 2004 نشر فريق تابع للجمعية الأميركية لعلم النفس تحليلا تلويا بدورية(1) "ديفيلومنتال سايكولوجي" فحص نتائج 73 دراسة سابقة في هذا النطاق، ركّزت أساسا على الأطفال من الناطقين بثلاث لغات مختلفة. وجد الفحص أن الفتيات تكلّمنَّ بـ "انتماء"، أي بميل لتكوين روابط مع الآخرين مع درجة من العاطفة، أكثر من الفتيان الذين تحدثوا بـ "حزم"، وفي المتوسط تكلمت الفتيات أكثر من الأولاد، ولكن فقط بفارق ضئيل لا يمكن أن يُعتَبر مؤثرا من وجهة نظر إحصائية، أضف إلى ذلك أن هذا الاختلاف الضئيل كان واضحا فقط عندما تحدث الأولاد والبنات إلى أحد الوالدين، ولم يُلاحظ عندما كانوا يتحدثون مع أصدقائهم.
التحليل التلوي (Meta-analysis) هو آلية بحثية تعمل على فحص نتائج عدة دراسات قد تكون متوافقة أو متضادة، وذلك من أجل تعيين توجُّه أو ميل واضح لتلك النتائج، أو لإيجاد علاقة مشتركة ممكنة فيما بينها، عادة ما يفيد في التجارب السريرية والنفسية، لأن هذه النطاقات تحوي الكثير من المتغيرات التي لا تجعل من دراسة واحدة مصدر حسم في قضية ما.
في عام 2007، بحث الفريق(2) نفسه عن الفروق المتعلقة "بالثرثرة" بين رجال ونساء من سن الشباب فما أكبر، هذه المرة أوضح التحليل أن الرجال كانوا أكثر مَن تحدَّث في المتوسط، لكن الفارق كان صغيرا مرة أخرى، بحيث لا يمكن أن يُعبِّر عن حقيقة واقعة، لكن ظلّت الفروق أكثر وضوحا في طبيعة الكلام، فتحدث الرجال بحزم، والنساء بانتماء.
لكن لأن الظروف الخاصة بالتجارب في هذا النطاق من الدراسات النفسية يمكن أن تدفع إلى توتر المشاركين فتختل النتائج، كان جيمس بينباكر، أستاذ علم النفس من جامعة تكساس، قد صمَّم تجربة مختلفة صدرت(3) في دورية "Science" عام 2007 أيضا، حيث وضع أجهزة تسجيل صوتية في الحياة العادية لبعض الناس تلتقط الأصوات من محيطها لمدة 30 ثانية مرة كل 12.5 دقيقة، بعد 17 ساعة فحص تبيَّن أن النساء نطقوا ما متوسطه 16215 كلمة بينما تحدث الرجال 15669.
تجربة شبيهة صدرت نتائجها في عام 2014 بدورية "ساينتفك ريبورتس"(4) التابعة لمؤسسة "نيتشر" المرموقة، وجدت أن هناك فارقا ظهر في عدد الكلمات لصالح النساء، لكن ذلك ظهر بالدرجة الأولى في سياق تعاوني، حيث كان من المُرجَّح أن تكون النساء، في وجود نساء أخريات، أكثر قربا جسديا وأكثر كلاما، خاصة في المجموعات الصغيرة. في المقابل، لم تكن هناك فروق بين الجنسين في بيئة غير تعاونية، هذه الدراسة قامت باستخدام أجهزة بحجم الهاتف المحمول حملها المتطوعون يوميا في حياتهم العادية.
كما يتضح إذن، لا توجد فروق واضحة بين الرجال والنساء في عدد الكلمات التي يتحدثها كلٌّ منهم يوميا، وعلى الرغم من أن هذه الدراسات ليست حاسمة، فإنها تُوضِّح ميلا على الأقل يفيد بوجود فروق طفيفة لا تُذكر بين الجنسين. حتّى إنه في نطاقات أخرى، مثل النميمة (القيل والقال)، فإن بعض النتائج البحثية وقفت ضد هذا الاتهام الموجَّه عادة للنساء.
فقد صدرت دراسة(5) من جامعة كاليفورنيا، عام 2019، تفيد، بعد فحص عينة قوامها نحو خمسمئة مشارك، بأن الرجال والنساء يتشابهون تقريبا في نِسَب النميمة السلبية (المؤذية)، ولكن نِسَب النميمة المحايدة (القيل والقال عموما) كانت أميل ناحية النساء.
لكن من المثير للانتباه أن هذه الدراسة قد عملت أيضا على تحطيم خرافة أخرى شهيرة تقول إن الفقراء يمارسون النميمة أكثر من الأغنياء، أفادت الدراسة كذلك أن الشباب كانوا أكثر ميلا ناحية النميمة السلبية من كبار السن. لكن في المجمل، أظهرت الدراسة الناس يمارسون النميمة بما يساوي نحو 14% من الحديث اليومي، لكنها لحُسن الحظ في ثلاثة أرباع الوقت كانت نميمة محايدة (قيل وقال) لا تضر.
دراسة أخرى(6) صدرت قبل خمسة أعوام في دورية "جورنال أوف جندر ستاديز"، أوضحت في استفتاء لقرابة 2000 متطوع أن النساء يملن إلى القيل والقال أكثر من الرجال، خاصة حينما يتعلق الأمر بالعلاقات الاجتماعية والمظهر الجسدي، لكن الملمح الأساسي لهذا النمط من القيل والقال كان أنه أكثر إيجابية من الرجال، بمعنى أنه لم يكن أقرب للتهكم أو السخرية بل الثناء.
وبالنسبة للكذب، فإنك أيضا ستجد نوعية الفروق نفسها بين الرجال والنساء، التي قد تظهر أو لا تظهر بحسب طبيعة الدراسة ومتغيراتها، لكنها عادة ما تكون صغيرة. لكن في تلك النقطة ربما تسأل: لمَ يحدث ذلك؟ إذا كان النساء والرجال، في المتوسط، يمتلكون معدلات الكلام نفسها، وما يتبعه من أشياء كالنميمة أو الكذب، لمَ تُتهم النساء خاصة أنهن ثرثارات بفارق "هائل" مقارنة بالرجال؟
الجواب هنا هو ما يعنيه أن تصبح ثرثارا، لأن هذه الكلمة عادة ما تُستخدم للتعبير عن السطحية والتفاهة، وللأسف فإنه ما زالت هناك صورة عالمية، وليست عربية فقط، عن المرأه أنها أكثر سطحية، ويمتد هذا الخط على استقامته للتعامل مع المرأة على أنها أقل ذكاء.
وعلى الرغم من أن إجماع العلماء في نطاق الذكاء والقدرات الإدراكية يُشير إلى أنه لا توجد فروق واضحة بين الرجال والنساء، وأنه من الأساس لا يمكن أن نُصنِّف الدماغ البشري ذكرا أو أنثى، فإن هذه الصورة عن المرأة ما زالت قائمة على أية حال، صورة تقول إن ابنتك الصغيرة ذات السنوات الخمس أقل ذكاء من زميل لها في الفصل بينما تبذل هي جهدا دراسيا أكبر منه، في تلك النقطة دعنا نتعرف على مفهوم تهديد الصورة النمطية (Stereotype Threat).
يُشير هذا المفهوم إلى ميل فئة من الناس لتحقيق صورة المجتمع عنهم، فإذا أُحيطت فتاة ما، في المنزل والعمل والجامعة، بأشخاص يقولون إنها سطحية على سبيل المثال، فإنها ستتصرف بهذا الشكل، ليس لأنها بالفعل أكثر سطحية أو أقل ذكاء من الرجل، لكن لأن الظرف الاجتماعي يضعها في حالة من التوتر المستمر، فلا تتمكّن من المُضي قُدما في حياتها بوجه طبيعي، وتفشل من حين لآخر محققة توقعات المجتمع عن سلوكها.
على وسائل التواصل الاجتماعي، عادة ما تُهاجَم الفتيات بطريقة "إلى المطبخ"، خاصة حينما تُحقِّق إنجازات في نطاقات عادة ما يُنجز فيها الرجال، لكن هذا ليس سوى تمظهر أكثر تطرُّفا ووضوحا لصورة مجتمعية أكثر عمقا وتغلغلا وسكونا، تُحمِّل كل نسائنا ضغطا هائلا لا يمكن حتّى تصوُّر حجمه.